صفحة جزء
( 3460 ) فصل : وإذا فرق مال المفلس ، وبقيت عليه بقية ، وله صنعة ، فهل يجبره الحاكم على إيجار نفسه ، ليقضي دينه ؟ على روايتين ; إحداهما ، لا يجبره ، وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى : { وإن كان [ ص: 289 ] ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .

ولما روى أبو سعيد ، { أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها ، وكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه . فتصدقوا عليه ، فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك . } رواه مسلم .

ولأن هذا تكسب للمال ، فلم يجبره عليه ، كقبول الهبة والصدقة ، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر .

والثانية ، يجبر على الكسب . وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار والعنبري وإسحاق ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقا في دينه ، وكان سرق رجلا دخل المدينة ، وذكر أن وراءه مالا ، فداينه الناس ، فركبته ديون ، ولم يكن وراءه مال ، فسماه سرقا ، وباعه بخمسة أبعرة . والحر لا يباع ، ثبت أنه باع منافعه . ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان ، في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة ، وثبوت الغنى بها ، فكذلك في وفاء الدين منها .

ولأن الإجارة عقد معاوضة ، فجاز إجباره عليها ، كبيع ماله في وفاء الدين منها . ولأنها إجارة لما يملك إجارته ، فيجبر عليها في وفاء دينه ، كإجارة أم ولده . ولأنه قادر على وفاء دينه ، فلزمه . كمالك ما يقدر على الوفاء منه . فإن قيل : حديث سرق منسوخ ، بدليل أن الحر لا يباع ، والبيع وقع على رقبته ، بدليل أن في الحديث أن الغرماء قالوا لمشتريه : ما تصنع به ؟ قال أعتقه . قالوا : لسنا بأزهد منك في إعتاقه . فأعتقوه .

قلنا : هذا إثبات النسخ بالاحتمال ، ولا يجوز ، ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزا في شريعتنا ، وحمل لفظ بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم ، فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه سائغ كثير في القرآن ، وفي كلام العرب ، كقوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل }

{ . ولكن البر من آمن بالله . }

{ واسأل القرية . }

وغير ذلك . وكذلك قوله : " أعتقه " . أي من حقي عليه .

وكذلك قال : " فأعتقوه " يعني الغرماء ، وهم لا يملكون إلا الدين الذي عليه . وأما قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . }

فيتوجه منع كونه داخلا تحت عمومها ; فإن هذا في حكم الأغنياء ، في حرمان الزكاة ، وسقوط نفقته عن قريبه ، ووجوب نفقة قريبه عليه ، وحديثهم قضية عين ، لا يثبت حكمها إلا في مثلها ، ولم يثبت أن لذلك الغريم كسبا يفضل عن قدر نفقته . وأما قبول الهبة والصدقة ، ففيه منة ومعرة تأباها قلوب ذوي المروءات ، بخلاف مسألتنا . إذا ثبت هذا ، فلا يجبر على الكسب إلا من في كسبه فضلة عن نفقته ، ونفقة من يمونه ، على ما تقدم ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية