صفحة جزء
( 3492 ) مسألة ; قال : ( والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه ، فيصطلحان على بعضه ، فإن كان يعلم ما عليه ، فجحده ، فالصلح باطل ) وجملة ذلك ، أن الصلح على الإنكار صحيح . وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا يصح ; لأنه عاوض على ما لم يثبت له ، فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ، ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه ، فبطل ، كالصلح على حد القذف .

ولنا ، عموم قوله : عليه السلام { الصلح بين المسلمين جائز } . فيدخل هذا في عموم قوله . فإن قالوا : فقد قال : { إلا صلحا أحل حراما } . وهذا داخل فيه ; لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه ، فحل بالصلح . قلنا : لا نسلم دخوله فيه ، ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين ; أحدهما ، أن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع ، فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله ، وكذلك الصلح بمعنى الهبة ، فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه ، الإسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه .

الثاني ، أنه لو حل به المحرم ، لكان الصلح صحيحا ، فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام ، وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه ، كما لو صالحه على استرقاق حر ، أو إحلال بضع محرم ، أو [ ص: 309 ] صالحه بخمر أو خنزير . وليس ما نحن فيه كذلك .

وعلى أنهم لا يقولون بهذا ، فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه ، أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه ، فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه ، فلأن يحل برضاه وبذله أولى ، وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم ، فلأن يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أولى ، ولأن المدعي هاهنا يأخذ عوض حقه الثابت له ، والمدعى عليه يدفعه لدفع الشر عنه ، وقطع الخصومة ، ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع ، ولأنه صلح يصح مع الأجنبي ، فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار . يحققه أنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه ، فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى .

وقولهم : إنه معاوضة . قلنا : في حقهما أم في حق أحدهما ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ; وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده ، فهو معاوضة في حقه ، والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه ، ويخلصه من شر المدعي ، فهو أبرأ في حقه ، وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المتعاقدين دون الآخر ، كما لو اشترى عبدا شهد بحريته ، فإنه يصح ، ويكون معاوضة في حق البائع واستنقاذا له من الرق في حق المشتري ، كذا هاهنا .

إذا ثبت هذا ، فلا يصح هذا الصلح ، إلا أن يكون المدعي معتقدا أن ما ادعاه حق ، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه ، فيدفع إلى المدعي شيئا افتداء ليمينه ، وقطعا للخصومة ، وصيانة لنفسه عن التبذل ، وحضور مجلس الحاكم ، فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك ، ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم ، والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ، ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم ، والمدعي يأخذ ذلك عوضا عن حقه الثابت له ، فلا يمنعه الشرع من ذلك أيضا ، سواء كان المأخوذ من جنس حقه ، أو من غير جنسه ، بقدر حقه أو دونه ، فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوف له ، وإن أخذ دونه ، فقد استوفى بعضه وترك بعضه ، وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه .

ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر مما ادعاه ; لأن الزائد لا مقابل له ، فيكون ظالما بأخذه . وإن أخذ من غير جنسه جاز ، ويكون بيعا في حق المدعي ; لاعتقاده أخذه عوضا ، فيلزمه حكم إقراره . فإن كان المأخوذ شقصا في دار أو عقار ، وجبت فيه الشفعة ، وإن وجد به عيبا فله رده ، والرجوع في دعواه ، ويكون في حق المنكر بمنزلة الإبراء ، لأنه دفع المال افتداء ليمينه ، ودفعا للضرر عنه ، لا عوضا عن حق يعتقده فيلزمه أيضا حكم إقراره . فإن وجد بالمصالح عنه عيبا ، لم يرجع به على المدعي ; لاعتقاده أنه ما أخذ عوضا . وإن كان شقصا لم تثبت فيه الشفعة ; لأنه يعتقده على ملكه ، لم يزل ، وما ملكه بالصلح .

ولو دفع المدعى عليه إلى المدعي ما ادعاه أو بعضه ، لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة ; لأن المدعي يعتقد أنه استوفى بعض حقه ، وأخذ عين ماله ، مسترجعا لها ممن هي عنده ، فلم يكن بيعا ، كاسترجاع العين المغصوبة ، فأما إن كان أحدهما كاذبا ، مثل أن يدعي المدعي شيئا يعلم أنه ليس له ، وينكر المنكر حقا يعلم أنه عليه ، فالصلح باطل في الباطن ; لأن المدعي إذا كان كاذبا ، فما يأخذه أكل مال بالباطل ، أخذه بشره وظلمه ودعواه الباطلة ، لا عوضا عن حق له ، فيكون حراما عليه ، كمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله ، وإن كان صادقا ، والمدعى عليه يعلم صدقه وثبوت حقه ، فجحده لينتقص حقه ، أو يرضيه عنه بشيء فهو هضم [ ص: 310 ] للحق ، وأكل مال بالباطل ، فيكون ذلك حراما ، والصلح باطل ، ولا يحل له مال المدعي بذلك .

وقد ذكره الخرقي في قوله " وإن كان يعلم ما عليه فجحده ، فالصلح باطل " . يعني في الحقيقة ، وأما الظاهر لنا فهو الصحة ; لأننا لا نعلم باطن الحال ، وإنما ينبني الأمر على الظواهر ، والظاهر ، من المسلم السلامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية