صفحة جزء
( 3573 ) فصل : فيما يصح ضمانه : ويصح ضمان الجعل في الجعالة ، وفي المسابقة والمناضلة . وقال أصحاب الشافعي ، في أحد الوجهين : لا يصح ضمانه ; لأنه لا يئول إلى اللزوم ، فلم يصح ضمانه ، كما في الكتابة . ولنا ، قول الله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } . ولأنه يئول إلى اللزوم إذا عمل العمل ، وإنما الذي لا يلزم العمل ، والمال يلزم بوجوده ، والضمان للمال دون العمل .

ويصح ضمان أرش الجناية ، سواء كانت نقودا كقيم المتلفات ، أو حيوانا كالديات . وقال أصحاب الشافعي : لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها ; لأنه مجهول . وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول ، ولأن الإبل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان والعدد ، وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر ; لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل معلومة ، وكذلك غيرها من الحيوان ، ولأن جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالإتلاف ، فلم يمنع وجوبه بالالتزام .

ويصح ضمان نفقة الزوجة ، سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة ; لأن نفقة اليوم واجبة ، والمستقبلة مآلها إلى اللزوم ، ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب . وقال القاضي : إذا ضمن نفقة المستقبل ، لم تلزمه إلا نفقة المعسر ; لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار .

وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه : يصح ضمانها . ولنا ، أنه يصح ضمان ما لم يجب ، واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها ، بدليل الجعل في الجعالة ، والصداق قبل الدخول ، والمبيع في مدة الخيار . فأما النفقة في الماضي ، فإن كانت واجبة ، إما بحكم الحاكم بها ، أو قلنا : بوجوبها بدون حكمه ، صح ضمانها ، وإلا فلا .

ويصح ضمان مال السلم ، في إحدى الروايتين . والأخرى لا يصح ; لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه ، فلم يجز ، كالحوالة به . والأول أصح ; لأنه دين لازم فصح ضمانه ، كالأجرة وثمن المبيع . ولا يصح ضمان مال الكتابة ، في إحدى الروايتين . وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم . والأخرى : يصح ; لأنه دين على المكاتب ، فصح ضمانه ، كسائر الديون عليه .

والأولى أصح ; لأنه ليس بلازم . ولا مآله إلى اللزوم ، فإن للمكاتب تعجيز نفسه ، والامتناع عن أدائه ، فإذا لم يلزم الأصيل ، فالضمين أولى . ويصح ضمان الأعيان المضمونة ، كالمغصوب والعارية . وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي في أحد القولين ، وقال في الآخر : لا يصح ; لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة ، وإنما يضمن ما ثبت في الذمة ، ووصفنا لها بالضمان إنما معناه أنه يلزمه قيمتها إن تلفت ، والقيمة مجهولة .

ولنا ، أنها مضمونة على من هي في يده ، فصح ضمانها ، كالحقوق الثابتة في الذمة . وقولهم : إن الأعيان لا تثبت في الذمة . قلنا : الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها ، والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها .

وهذا مما يصح ضمانه ، كعهدة المبيع ، فإن ضمانها يصح ، وهو في [ ص: 347 ] الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه ، إن ظهر بالبيع عيب ، أو خرج مستحقا ، فأما الأمانات ، كالوديعة ، والعين المؤجرة ، والشركة ، والمضاربة ، والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط ، فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها ، لم يصح ضمانها ; لأنها غير مضمونة على من هي في يده ، فكذلك على ضامنه . وإن ضمنها إن تعدى فيها ، فظاهر كلام أحمد رحمه الله ، يدل على صحة الضمان ; فإنه قال في رواية الأثرم ، في رجل يتقبل من الناس الثياب ، فقال له رجل : ادفع إليه ثيابك ، وأنا ضامن .

فقال له : هو ضامن لما دفعه إليه . يعني إذا تعدى أو تلف بفعله . فعلى هذا إن تلف بغير تفريط منه ولا فعله ، لم يلزم الضامن شيء ، لما ذكرنا ، وإن تلف بفعله أو تفريط لزم ضمانها ولزم ضامنه ذلك ; لأنها مضمونة على من هي في يده ، فلزم ضامنه ، كالغصوب والعواري . وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب ، وقد بينا جوازه .

ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري ، وعن المشتري للبائع ، فضمانه على المشتري هو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن ظهر فيه عيب أو استحق ، رجع بذلك على الضامن ، وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا ، أو رد بعيب ، أو أرش العيب . فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر . وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ، ويذكر فيه الثمن ، فعبر به عن الثمن الذي يضمنه .

وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي . ومنع منه بعض الشافعية ; لكونه ضمان ما لم يجب ، وضمان مجهول ، وضمان عين . وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله . ولأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع ، والوثائق ثلاثة ; الشهادة ، والرهن ، والضمان . فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق ، وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع ; لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبدا مرهونا ، فلم يبق إلا الضمان .

ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجبا حال العقد ; لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حال العقد ، ومتى كان كذلك ، فقد ضمن ما وجب حين العقد ، والجهالة منتفية ; لأنه ضمن الجملة ، فإذا خرج بعضه مستحقا ، لزمه بعض ما ضمنه . إذا ثبت هذا ، فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده . وقال الشافعي : إنما يصح بعد القبض ; لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شيء .

وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب ، كالجعالة . وألفاظ ضمان العهدة أن يقول : ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه . أو يقول للمشتري : ضمنت خلاصك منه . أو يقول : متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن . وحكي عن أبي يوسف ، أنه قال : ضمنت عهدته ، أو ضمنت لك العهدة . والعهدة في الحقيقة : هي الصك المكتوب فيه الابتياع .

هكذا فسره به أهل اللغة ، فلا يصح ضمانه للمشتري ; لأنه ملكه ، وليس بصحيح ; لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن ، والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفية دون اللغوية ، كالراوية ، تحمل عند إطلاقها على المزادة ، لا على الجمل ، وإن كان هو الموضوع . فأما إن ضمن له خلاص المبيع ، فقال أبو بكر : هو باطل ; لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا ، لا يستطيع تخليصه ، ولا يحل .

وقد قال أحمد ، في رجل باع عبدا أو أمة ، وضمن له الخلاص ، فقال : كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حرا ؟ فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه ، بطل في الخلاص . [ ص: 348 ] وهل يصح في العهدة ؟ على وجهين ، بناء على تفريق الصفقة . إذا ثبت صحة ضمان العهدة ، فالكلام فيما يلزم الضامن ، فنقول : إن استحقاق رجوع المشتري بالثمن لا يخلو ، إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد ، أو مقارن له ، فأما الحادث فمثل تلف المبيع من المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان ، فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن ; لأن هذا الاستحقاق لم يكن موجودا حال العقد ، وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد .

ويحتمل أن يرجع به على الضامن ; لأن ضمان ما لم يجب جائز ، وهذا منه . وأما إن كان بسبب مقارن ، نظرنا ; فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه ، كأخذه بالشفعة ، فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن . ومتى لم يجب على المضمون عنه شيء ، لم يجب على الضامن بطريق الأولى .

وأما إن زال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع ، باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم ، فله الرجوع إلى الضامن ، وهذا ضمان العهدة ، وإن أراد أخذ أرش العيب ، رجع على الضامن أيضا ; لأنه إذا لزمه كل الثمن ، لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه ، وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه ; لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا ، بطل العقد في الجميع ، في إحدى الروايتين ، فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق ، وعلى الرواية الأخرى : لا يبطل العقد في الجميع ، ولكن استحق ردها ، فإن ردها كلها فالحكم كذلك ، وإن أمسك المملوك منها ، فله المطالبة بالأرش ، كما لو وجد بها عيبا .

ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط أن يرهن عنده عينها ، فتكفل رجل بتسليم الرهن ، لم تصح الكفالة ; لأنه لا يلزم الراهن إقباضه وتسليمه ، فلا يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصل . وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع ، من بناء أو غراس ، صح ، سواء ضمنه البائع أو أجنبي ، فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع ، رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص . وبهذا قال أبو حنيفة .

وقال الشافعي : لا يصح ; لأنه ضمان مجهول ، وضمان ما لم يجب . وقد بينا جواز ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية