صفحة جزء
( 3615 ) مسألة ; قال : ( وشركة الأبدان جائزة ) . معنى شركة الأبدان ، أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم ، كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم ، فما رزق الله تعالى فهو بينهم .

وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح ، كالحطب ، والحشيش ، والثمار المأخوذة من الجبال ، والمعادن ، والتلصص على دار الحرب ، فهذا جائز . نص عليه أحمد ، في رواية أبي طالب ، فقال : لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم ، وليس لهم مال ، مثل الصيادين والنقالين والحمالين . قد { أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن مسعود ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم يجيئا بشيء } .

وفسر أحمد صفة الشركة في الغنيمة ، فقال : يشتركان فيما يصيبان من سلب المقتول ; لأن القاتل يختص به دون الغانمين . وبهذا قال مالك . وقال أبو حنيفة : يصح في الصناعة ، ولا يصح في اكتساب المباح ، كالاحتشاش والاغتنام ; لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في هذه الأشياء ; لأن من أخذها ملكها .

وقال الشافعي شركة الأبدان كلها فاسدة ; لأنها شركة على غير مال . فلم تصح . كما لو اختلفت الصناعات . ولنا ، ما روى أبو داود والأثرم بإسنادهما ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر ، فلم أجئ أنا وعمار بشيء ، وجاء سعد بأسيرين . ومثل هذا لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرهم عليه ، وقال أحمد : أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : فالمغانم مشتركة بين الغانمين بحكم الله تعالى ، فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها ؟ وقال بعض الشافعية : غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أن يدفعها إلى من شاء .

فيحتمل أن يكون فعل ذلك لهذا . قلنا : أما الأول ، فالجواب عنه أن غنائم بدر كانت لمن أخذها من قبل أن يشرك الله تعالى بينهم ، ولهذا نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من أخذ شيئا فهو له } . فكان ذلك من قبيل المباحات ; من سبق إلى أخذ شيء فهو له .

ويجوز أن يكون شرك بينهم فيما يصيبونه من الأسلاب والنفل ، إلا أن الأول أصح لقوله : جاء سعد بأسيرين ، ولم أجئ أنا وعمار بشيء . وأما الثاني ، فإن الله تعالى إنما جعل الغنيمة لنبيه عليه السلام بعد أن غنموا واختلفوا في الغنائم ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } . والشركة كانت قبل ذلك .

ويدل على صحة هذا ، أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخل ; إما أن يكون قد أباحهم أخذها ، فصارت كالمباحات ، أو لم يبحها لهم ، فكيف يشتركون [ ص: 5 ] في شيء لغيرهم ؟ . وفي هذا الخبر حجة على أبي حنيفة أيضا ; لأنهم اشتركوا في مباح ، وفيما ليس بصناعة ، وهو يمنع ذلك ، ولأن العمل أحد جهتي المضاربة ، فصحت الشركة عليه كالمال ، وعلى أبي حنيفة ، أنهما اشتركا في مكسب مباح فصح ، كما لو اشتركا في الخياطة والقصارة ، ولا نسلم أن الوكالة لا تصح في المباحات ; فإنه يصح أن يستنيب في تحصيلها بأجرة ، فكذلك يصح بغير عوض إذا تبرع أحدهما بذلك ، كالتوكيل في بيع ماله .

( 3616 ) فصل : وتصح شركة الأبدان مع اتفاق الصنائع .

فأما مع اختلافها ، فقال أبو الخطاب : لا تصح . وهو قول مالك ; لأن مقتضاها أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ، ويلزم صاحبه ، ويطالب به كل واحد منهما ، فإذا تقبل أحدهما شيئا مع اختلاف صنائعهما ، لم يمكن الآخر أن يقوم به ، فكيف يلزمه عمله ، أم كيف يطالب بما لا قدرة له عليه ، وقال القاضي : تصح الشركة ; لأنهما اشتركا في مكسب مباح ، فصح ، كما لو اتفقت الصنائع ، ولأن الصنائع المتفقة قد يكون أحد الرجلين أحذق فيها من الآخر ، فربما يتقبل أحدهما ما لا يمكن الآخر عمله ، ولم يمنع ذلك صحتها ، فكذلك إذا اختلفت الصناعتان .

وقولهم : يلزم كل واحد منهما ما يتقبله صاحبه . قال القاضي : يحتمل أن لا يلزمه ذلك ; لأنهما كالوكيلين ; بدليل صحتهما في المباح ، ولا ضمان فيها . وإن قلنا : يلزمه . أمكنه تحصيل ذلك بالأجرة ، أو بمن يتبرع له بعمله . ويدل على صحة هذا ، أنه لو قال أحدهما : أنا أتقبل وأنت تعمل . صحت الشركة ، وعمل كل واحد منهما غير عمل صاحبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية