صفحة جزء
( 3926 ) فصل : فإن أعاره شيئا لينتفع به انتفاعا يلزم من الرجوع في العارية في أثنائه ضرر بالمستعير ، لم يجز له الرجوع ; لأن الرجوع يضر بالمستعير ، فلم يجز له الإضرار به ، مثل أن يعيره لوحا يرقع به سفينته ، فرقعها [ ص: 134 ] به ، ولجج بها في البحر ، لم يجز الرجوع ما دامت في البحر ، وله الرجوع قبل دخولها في البحر ، وبعد الخروج منه ; لعدم الضرر فيه .

وإن أعاره أرضا ليدفن فيها ، فله الرجوع ما لم يدفن فيها . فإذا دفن لم يكن له الرجوع ، ما لم يبل الميت . وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه ، جاز ، كما تجوز إعارة الأرض للبناء والغراس ، وله الرجوع ما لم يضعه ، وبعد وضعه ما لم يبن عليه ; لأنه لا ضرر فيه ، فإن بنى عليه ، لم يجز الرجوع ; لما في ذلك من هدم البناء .

وإن قال : أنا أدفع إليك أرش ما نقص بالقلع . لم يلزم المستعير ذلك ; لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه . ولا يجب على المستعير قلع شيء من ملكه بضمان القيمة .

وإن انهدم الحائط وزال الخشب عنه ، أو أزاله المستعير باختياره ، لم يملك إعادته ، سواء بنى الحائط بآلته أو بغيرها ; لأن العارية لا تلزم ، وإنما امتنع الرجوع قبل انهدامه ; لما فيه من الضرر بالمستعير ، بإزالة المأذون في وضعه ، وقد زال ذلك . وكذلك إذا سقط الخشب والحائط بحاله . وإن أعاره أرضا لزراعة شيء ، فله الرجوع ما لم يزرع ، فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى أن ينتهي الزرع .

فإن بذل له قيمة الزرع ليملكه ، لم يكن له ذلك . نص عليه أحمد لأن له وقتا ينتهي إليه . فإن كان مما يحصد قصيلا ، فله الرجوع في وقت إمكان حصاده ; لعدم الضرر فيه ، وإن لم يكن كذلك ، لم يكن له الرجوع حتى ينتهي . وإن أذن له في البناء والغراس فيها ، فله الرجوع قبل قلعه .

فإذا غرس وبنى ، فللمالك الرجوع فيما بين الغراس والبناء ; ولأنه لم يتعلق به ملك المستعير ، ولا ضرر عليه في الرجوع فيه ، فأشبه ما لو لم يبن في الأرض شيئا ، ولم يغرس فيها . ثم إن اختار المستعير أخذ بنائه وغراسه ، فله ذلك ; لأنه ملكه فملك نقله . ولا يلزمه تسوية الحفر .

ذكره القاضي ; لأن المعير رضي بذلك حيث أعاره ، مع علمه بأن له قلع غرسه . ويحتمل أن عليه تسوية الحفر ; لأن القلع باختياره ، فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه ، فلزمه تسوية الأرض ، كما لو خرب أرضه التي لم يستعرها . وإن أبى القلع ، فبذل له المعير ما ينقص بالقلع ، أو قيمة غراسه وبنائه قائما ، ليأخذه المعير ، أجبر المستعير عليه ; لأنه رجوع في العارية من غير إضرار .

وإن قال المستعير : أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي . لم يكن له ; لأن الغراس تابع ، والأرض أصل ، ولذلك يتبعها الغراس والبناء في البيع ، ولا تتبعهما ، وبهذا كله قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان ، إلا أن يكون أعاره مدة معلومة ، فرجع فيها قبل انقضائها ; لأن المعير لم يغره ، فكان عليه القلع ، كما لو شرط عليه . ولنا ، أنه بنى وغرس بإذن المعير ، من غير شرط القلع ، فلم يلزمه القلع من غير ضمان ، كما لو طالبه قبل انقضاء الوقت .

وقولهم : لم يغره . ممنوع ; فإن الغراس والبناء يراد للتبقية ، وتقدير المدة ينصرف إلى ابتدائه ، كأنه قال له : لا تغرس بعد هذه المدة . فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص ، وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر ، لم يقلع ; لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان ، والإذن فيما يبقى على الدوام وتضر إزالته رضى بالإبقاء ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس لعرق ظالم حق } .

يدل بمفهومه على أن العرق الذي ليس بظالم له حق ، فعند ذلك ، إن اتفقا على البيع ، بيعت الأرض بغراسها ، ودفع إلى كل واحد منهما قدر حقه ، فيقال : كم قيمة الأرض غير مغروسة ولا مبنية ؟ فإذا قيل عشرة . قلنا : وكم تساوي مغروسة ومبنية ؟ فإن قالوا : خمسة عشر . قلنا : فللمعير [ ص: 135 ] ثلثا الثمن ، وللمستعير ثلثه . وإن امتنعا من البيع ، بقيا على حالهما ، وللمعير دخول أرضه كيف شاء ، والانتفاع بها بما لا يضر الغراس والبناء ، ولا ينتفع بهما ، وليس لصاحب الغراس والبناء الدخول إلا لحاجة ، مثل السقي وإصلاح الثمرة ; لأن الإذن في الغراس إذن فيما يعود بصلاحه ، وأخذ ثماره ، وسقيه . وليس له دخولها للتفرج ; لأنه قد رجع في الإذن له .

ولكل واحد منهما بيع ما يختص به من الملك منفردا ، فيكون للمشتري مثل ما كان لبائعه . وقال بعض أصحاب الشافعي : ليس للمستعير بيع الشجر ; لأن ملكه فيه غير مستقر ، بدليل أن للمعير أخذه متى شاء بقيمته . قلنا : عدم استقراره لا يمنع بيعه ، بدليل الشقص المشفوع والصداق قبل الدخول .

وفي جميع هذه المسائل ، متى كان المعير شرط على المستعير القلع عند رجوعه ، ورد العارية غير مشغولة ، لزمه ذلك ; لأن المسلمين على شروطهم ، ولأن العارية مقيدة غير مطلقة ، فلم تتناول ما عدا المقيد ; لأن المستعير دخل في العارية راضيا بالتزام الضرر الداخل عليه بالقلع ، وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه . ولا نعلم في هذا خلافا .

وأما تسوية الحفر الحاصلة بالقلع فإذا كانت مشروطة عليه ، لزمه ; لما ذكرنا ، وإلا لم يلزم ; لأنه رضي بضرر القلع من الحفر ونحوه ، حيث اشترط القلع . ولم يذكر أصحابنا على المستعير أجرا في شيء من هذه المسائل ، إلا فيما إذا استعار أرضا للزرع ، فزرعها ، ثم رجع المعير فيها قبل كمال الزرع ، فإن عليه أجر مثله ، من حين رجع المعير ; لأن الأصل جواز الرجوع ، وإنما منع من القلع لما فيه من الضرر ، ففي دفع الأجر جمع بين الحقين ، فيخرج في سائر المسائل مثل هذا ، لوجود هذا المعنى فيه .

ويحتمل أن لا يجب الأجر في شيء من المواضع ; لأن حكم العارية باق فيه ، لكونها صارت لازمة للضرر اللاحق بفسخها ، والإعارة تقتضي الانتفاع بغير عوض .

التالي السابق


الخدمات العلمية