صفحة جزء
[ ص: 139 ] كتاب الغصب الغصب : هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق . وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . وقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } . وقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } .

والسرقة نوع من الغصب . وأما السنة ، فروى جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر : { إن دماءكم وأموالكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا } . رواه مسلم ، وغيره . وعن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من أخذ شبرا من الأرض ظلما ، طوقه من سبع أرضين } . متفق عليه .

وروى أبو حرة الرقاشي ، عن عمه وعمرو بن يثربي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يحل مال امرئ مسلم ، إلا بطيب نفس منه } . رواه أبو إسحاق الجوزجاني . وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة ، وإنما اختلفوا في فروع منه .

إذا ثبت هذا ، فمن غصب شيئا لزمه رده ، ما كان باقيا ، بغير خلاف نعلمه . لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { على اليد ما أخذت حتى تؤديه } . ولأن حق المغصوب منه متعلق بعين ماله وماليته ، ولا يتحقق ذلك إلا برده . فإن تلف في يده ، لزمه بدله ; لقول الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

ولأنه لما تعذر رد العين ، وجب رد ما يقوم مقامها في المالية . ثم ينظر ; فإن كان مما تتماثل أجزاؤه ، وتتفاوت صفاته ، كالحبوب والأدهان ، وجب مثله ، لأن المثل أقرب إليه من القيمة ، وهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة والمعنى ، والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد ، فكان ما طريقه المشاهدة مقدما ، كما يقدم النص على القياس ، لكون النص طريقه الإدراك بالسماع ، والقياس طريقه الظن والاجتهاد . وإن كان غير متقارب الصفات ، وهو ما عدا المكيل والموزون ، وجبت قيمته ، في قول الجماعة .

وحكي عن العنبري يجب في كل شيء مثله ; لما روت جسرة بنت دجاجة ، عن عائشة رضي الله عنها { ، أنها قالت : ما رأيت صانعا مثل حفصة ، صنعت طعاما ، فبعثت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذني الأكل فكسرت الإناء ، فقلت : يا رسول الله ، ما كفارة ما صنعت ؟ فقال : إناء مثل الإناء ، وطعام مثل الطعام } . رواه أبو داود .

وعن أنس ، { أن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم كسرت قصعة الأخرى ، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم قصعة الكاسرة إلى رسول صاحبة المكسورة ، وحبس المكسورة في بيته . } رواه أبو داود مطولا ، ورواه الترمذي نحوه ، وقال : حديث حسن صحيح . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرا ، ورد مثله . ولنا ; ما روى عبد الله بن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق شركا له في عبد ، قوم عليه قيمة العدل } . متفق عليه . فأمر بالتقويم في حصة الشريك ; لأنها متلفة بالعتق ، ولم يأمر بالمثل .

ولأن هذه الأشياء لا تتساوى [ ص: 140 ] أجزاؤها ، وتتباين صفاتها ، فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها ، فكانت أولى . وأما الخبر فمحمول على أنه جوز ذلك بالتراضي ، وقد علم أنها ترضى بذلك . ( 3932 ) فصل : وما تتماثل أجزاؤه ، وتتقارب صفاته ، كالدراهم والدنانير والحبوب والأدهان ، ضمن بمثله . بغير خلاف .

قال ابن عبد البر : كل مطعوم ، من مأكول أو مشروب ، فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته . وأما سائر المكيل والموزون ، فظاهر كلام أحمد أنه يضمن بمثله أيضا ; فإنه قال : في رواية حرب ، وإبراهيم بن هانئ : ما كان من الدراهم والدنانير ، وما يكال ويوزن ، فعليه مثله دون القيمة . فظاهر هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزون ، إلا أن يكون مما فيه صناعة ، كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها .

والحلي من الذهب والفضة وشبهه ، والمنسوج من الحرير والكتان والقطن والصوف والشعر ، والمغزول من ذلك ، فإنه يضمن بقيمته ; لأن الصناعة تؤثر في قيمته ، وهي مختلفة ، فالقيمة فيه أحصر ، فأشبه غير المكيل والموزون . وذكر القاضي أن النقرة والسبيكة من الأثمان ، والعنب والرطب والكمثرى إنما يضمنه بقيمته . وظاهر كلام أحمد يدل على ما قلنا . وإنما خرج منه ما فيه الصناعة ; لما ذكرنا . ويحتمل أن يضمن النقرة بقيمتها ، لتعذر وجود مثلها إلا بتكسير الدراهم المضروبة وسبكها ، وفيه إتلاف .

فعلى هذا ، إن كان المضمون بقيمته من جنس الأثمان ، وجبت قيمته من غالب نقد البلد ، فإن كانت من غير جنسه ، وجبت بكل حال ، وإن كانت من جنسه ، فكانت موزونة وجبت . وإن كانت أقل أو أكثر ، قوم بغير جنسه ، لئلا يؤدي إلى الربا . وقال القاضي : إن كانت فيه صناعة مباحة ، فزادت قيمته من أجلها ، جاز تقويمه بجنسه ; لأن ذلك قيمته ، والصناعة لها قيمة ، وكذلك لو كسر الحلي ، وجب أرش كسره ، ويخالف البيع ، لأن الصناعة لا يقابلها العوض في العقود ، ويقابلها في الإتلاف ، ألا ترى أنها لا تنفرد بالعقد ، وتنفرد بضمانها بالإتلاف . قال بعض أصحاب الشافعي : هذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم مثل القول الأول ، وهو الذي ذكره أبو الخطاب لأن القيمة مأخوذة على سبيل العوض ، فالزيادة فيه ربا ، كالبيع وكالنقص .

وقد قال أحمد في رواية ابن منصور : إذا كسر الحلي ، يصلحه أحب إلي . قال القاضي : وهذا محمول على أنهما تراضيا بذلك ، لا أنه على طريق الوجوب . وهذا فيما إذا كانت الصناعة مباحة ، فإن كانت محرمة كالأواني وحلي الرجال ، لم يجز ضمانه بأكثر من وزنه ، وجها واحدا ; لأن الصناعة لا قيمة لها شرعا ، فهي كالمعدومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية