صفحة جزء
( 3964 ) فصل : وإذا غصب حنطة فطحنها ، أو شاة فذبحها وشواها ، أو حديدا فعمله سكاكين أو أواني ، أو خشبة فنجرها بابا أو تابوتا ، أو ثوبا فقطعه وخاطه ، لم يزل ملك صاحبه عنه ، ويأخذه وأرش نقصه إن نقص ، ولا شيء للغاصب في زيادته ، في الصحيح من المذهب . وهذا قول الشافعي .

وقال أبو حنيفة في هذه المسائل كلها : ينقطع حق صاحبها عنها ، إلا أن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة ، إلا أن يدفع قيمتها فيملكها ويتصرف فيها كيف شاء . وروى محمد بن الحكم ، عن أحمد ما يدل على أن الغاصب يملكها بالقيمة ، إلا أنه قول قديم رجع عنه ، فإن محمدا مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة .

واحتجوا بما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار في دارهم ، فقدموا إليه شاة مشوية فتناول منها لقمة ، فجعل يلوكها ولا يسيغها ، فقال : إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير وجه حق . فقالوا : نعم يا رسول الله ، طلبنا في السوق فلم نجد ، فأخذنا شاة لبعض جيراننا ، ونحن نرضيهم من ثمنها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أطعموها الأسرى . } رواه أبو داود بنحو من هذا . وهذا يدل على أن حق أصحابها انقطع عنها ، ولولا ذلك لأمر بردها عليهم .

ولنا ، أن عين مال المغصوب منه قائمة ، فلزم ردها إليه ، كما لو ذبح الشاة ولم يشوها ، ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه ، فإذا فعله بملك غيره لم يزل عنه ، كما لو ذبح الشاة ، أو ضرب النقرة دراهم ، ولأنه لا يزيل الملك إذا كان بغير فعل آدمي ، فلم يزله إذا فعله آدمي ، كالذي ذكرناه ، فأما الخبر فليس بمعروف كما رووه ، وليس في رواية أبي داود : " ونحن نرضيهم من ثمنها " .

فإذا ثبت هذا ، فإنه لا شيء للغاصب بعمله ، سواء زادت العين أو لم تزد . وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أن الغاصب يشارك المالك بالزيادة ; لأنها حصلت بمنافعه ، ومنافعه أجريت مجرى الأعيان ، فأشبه ما لو غصب ثوبا فصبغه . والمذهب الأول . ذكره أبو بكر والقاضي ; لأن الغاصب عمل في ملك غيره بغير إذنه ، فلم يستحق لذلك عوضا ، كما لو أغلى زيتا فزادت قيمته ، أو بنى حائطا لغيره ، أو زرع حنطة إنسان في أرضه ، وسائر عمل الغاصب .

فأما صبغ الثوب ، فإن الصبغ عين مال ، لا يزول ملك صاحبه عنه بجعله مع ملك غيره ، وهذا حجة عليه ; لأنه إذا لم يزل ملكه عن صبغه بجعله في ملك غيره ، وجعله كالصفة ، فلأن لا يزول ملك غيره بعمله فيه أولى ، فإن احتج بأن من زرع في أرض غيره يرد عليه نفقته ، قلنا : الزرع ملك للغاصب ; لأنه عين ماله ، ونفقته عليه تزداد به قيمته ، فإذا أخذه مالك الأرض ، احتسب له بما أنفق على ملكه ، وفي مسألتنا عمله في ملك المغصوب منه بغير إذنه ، فكان لاغيا ، على أننا نقول : إنما تجب قيمة الزرع على إحدى الروايتين .

[ ص: 154 ] فأما إن نقصت العين دون القيمة ، رد الموجود وقيمة النقص ، وإن نقصت العين والقيمة ، ضمنهما معا ، كالزيت إذا غلاه . وهكذا القول في كل ما تصرف فيه ، مثل نقرة ضربها دراهم أو حليا ، أو طينا جعله لبنا ، أو غزلا نسجه ، أو ثوبا قصره . وإن جعل فيه شيئا من عين ماله ، مثل أن سمر الرفوف بمسامير من عنده ، فله قلعها ويضمن ما نقصت الرفوف ، وإن كانت المسامير من الخشب المغصوبة ، أو مال المغصوب منه فلا شيء للغاصب ، وليس له قلعها ، إلا أن يأمره المالك ، بذلك ، فيلزمه .

وإن كانت المسامير للغاصب ، فوهبها للمالك ، فهل يجبر على قبول الهبة ؟ على وجهين . وإن استأجر الغاصب على عمل شيء من هذا الذي ذكرناه ، فالأجر عليه . والحكم في زيادته ونقصه ، كما لو ولي ذلك بنفسه ، إلا أن يضمن النقص من شاء منهما ، فلو استأجر قصابا فذبح شاة ، فللمالك أخذها وأرش نقصها ، ويغرم من شاء منهما ، فإن غرم الغاصب ، لم يرجع على أحد إذا لم يعلم القصاب الحال ، وإن ضمن القصاب رجع على الغاصب ، لأنه غره ، وإن علم القصاب أنها مغصوبة فغرمه ، لم يرجع على أحد ; لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه عالما بالحال ، وإن ضمن الغاصب ، رجع على القصاب ; لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه ، وإن استعان بمن ذبح له ، فهو كما لو استأجره .

التالي السابق


الخدمات العلمية