صفحة جزء
( 4124 ) فصل : ظاهر كلام أحمد ، أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة ، أومأ إليه في رواية الأثرم ، وسئل عن الأكار يخرج نفسه من غير أن يخرجه صاحب الضيعة ، فلم يمنعه من ذلك . ذكره الشيخ أبو عبد الله بن حامد ، وهو قول بعض أصحاب الحديث . وقال بعض أصحابنا : هو عقد لازم . وهو قول أكثر الفقهاء ; لأنه عقد معاوضة ، فكان لازما ، كالإجارة ، ولأنه لو كان جائزا ، جاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة ، فيسقط حق العامل ، فيستضر . ولنا ما روى مسلم بإسناده عن ابن عمر ، { أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر ، على أن يعملوها ، ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نقركم على ذلك ما شئنا }

ولو كان لازما لم يجز بغير تقدير مدة ، ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة ، ولو قدر لم يترك نقله ، لأن هذا مما يحتاج إليه ، فلا يجوز الإخلال بنقله ، وعمر رضي الله عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر ، ولو كانت لهم مدة مقدرة ، لم يجز إخراجهم منها . ولأنه عقد على جزء من نماء المال ، فكان جائزا ، كالمضاربة ، أو عقد على المال بجزء من نمائه ، أشبه المضاربة ، وفارق الإجارة ; لأنها بيع ، فكانت لازمة ، كبيع الأعيان ، ولأن عوضها مقدر معلوم ، فأشبهت البيع . وقياسهم ينتقض بالمضاربة ، وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة ، فقياسها عليها أولى

وقولهم : إنه يفضي إلى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة . قلنا : إذا ظهرت الثمرة ، فهي تظهر على ملكهما ، فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولا غيره ، [ ص: 234 ] كما لو فسخ المضاربة بعد ظهور الربح . فعلى هذا لا يفتقر إلى ضرب مدة ، ولذلك لم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه رضي الله عنهم ، لأهل خيبر مدة معلومة حين عاملوهم . ولأنه عقد جائز ، فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة ، وسائر العقود الجائزة . ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة ، فهي بينهما على ما شرطاه ، وعلى العامل تمام العمل ، كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح ، وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شيء له ; لأنه رضي بإسقاط حقه ، فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح ، وعامل الجعالة إذا فسخ قبل إتمام عمله

وإن فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة ، فعليه أجر المثل للعامل ; لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض ، فأشبه ما لو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة . وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح ; لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالبا ، فلولا الفسخ لظهرت الثمرة ، فملك نصيبه منها ، وقد قطع ذلك بفسخه ، فأشبه فسخ الجعالة ، بخلاف المضاربة ، فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ، ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر ، كان العمل عليها في الابتداء من أسباب ظهورها ، والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا . فأما إن قلنا : إنه عقد لازم . فلا يصح إلا على مدة معلومة . وبهذا قال الشافعي

وقال أبو ثور : تصح من غير ذكر مدة ، ويقع على سنة واحدة . وأجازه بعض أهل الكوفة استحسانا ; لأنه لما شرط له جزءا من الثمرة ، كان ذلك دليلا على أنه أراد مدة تحصل الثمرة فيها . ولنا أنه عقد لازم ، فوجب تقديره بمدة ، كالإجارة ، ولأن المساقاة أشبه بالإجارة ، لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها ، ولأنها إذا وقعت مطلقة ، لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها ; لأنه يفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته ، فيصير كالمالك ، ولا يمكن تقديره بالسنة ; لأنه تحكم ، وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة ، فعلى هذا لا تتقدر أكثر المدة ، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت

وقد قيل : لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة . وهذا تحكم ، وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع . فأما أقل المدة ، فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها ، فلا يجوز على أقل منها ; لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة ، ولا يوجد في أقل من هذه المدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية