صفحة جزء
( 4354 ) فصل : الضرب الثاني الماء الجاري في نهر مملوك ، وهو أيضا قسمان أحدهما أن يكون الماء مباح الأصل ، مثل أن يحفر إنسان نهرا صغيرا ، يتصل بنهر كبير مباح ، فما لم يتصل الحفر لا يملكه ، وإنما هو تحجر وشروع في الإحياء ، فإذا اتصل الحفر ، كمل الإحياء وملكه ; لأن الملك بالإحياء أن تنتهي العمارة إلى قصدها ، بحيث يتكرر الانتفاع بها على صورتها ، وهذا كذلك . وسواء أجرى فيه الماء أو لم يجر ; لأن [ ص: 341 ] الإحياء يحصل بأن يهيئه للانتفاع به دون حصول المنفعة ، فيصير مالكا لقرار النهر وحافتيه ، وهواؤه حق له ، وكذلك حريمه ، وهو ملقى الطين من كل جانب

وعند القاضي أن ذلك غير مملوك لصاحب النهر ، وإنما هو حق من حقوق الملك ، وكذلك حريم البئر . وهذا مذهب الشافعي . وظاهر قول الخرقي ، أنه مملوك لصاحبه ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أحيا أرضا لم تملك ، فهي له } . وإحياؤها أن يحوط عليها حائطا ، أو يحفر فيها بئرا ، فيكون له خمس وعشرون ذراعا حواليها ، وحريم النهر يجب أن يكون كذلك

فإذا تقرر هذا فكان النهر لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة ; لأنه إنما ملك بالعمارة ، والعمارة بالنفقة ، فإن كفى جميعهم ، فلا كلام ، وإن لم يكفهم ، وتراضوا على قسمته بالمهايأة أو غيرها جاز ; لأنه حقهم ، لا يخرج عنهم . وإن تشاحوا في قسمته ، قسمه الحاكم بينهم على قدر أملاكهم ; لأن كل واحد منهم يملك من النهر بقدر ذلك ، فتؤخذ خشبة صلبة ، أو حجر مستوي الطرفين والوسط ، فيوضع على موضع مستو من الأرض ، في مقدم الماء ، فيه حزوز ، أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم ، يخرج من كل جزء أو ثقب إلى ساقية مفردة لكل واحد منهم ، فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به

فإن كانت أملاكهم مختلفة قسم على قدر ذلك ، فإذا كان لأحدهم نصفه ، وللآخر ثلثه ، وللآخر سدسه ، جعل فيه ستة ثقوب ، لصاحب النصف ثلاثة نصب في ساقيته ، ولصاحب الثلث اثنان ، ولصاحب السدس واحد . وإن كان لواحد الخمسان ، والباقي لاثنين يتساويان فيه ، جعل عشرة ثقوب لصاحب الخمسين أربعة نصب في ساقيته ، ولكل واحد من الآخرين ثلاثة نصب في ساقية له

فإن كان النهر لعشرة ، لخمسة منهم أراض قريبة من أول النهر ، ولخمسة أراض بعيدة ، جعل لأصحاب القريبة خمسة ثقوب ، لكل واحد ثقب ، وجعل للباقين خمسة ، تجري في النهر حتى تصل إلى أرضهم ، ثم تقسم بينهم قسمة أخرى . وإن أراد أحدهم أن يجري ماءه في ساقية غيره ، ليقاسمه في موضع آخر ، لم يجز إلا برضاه ; لأنه يتصرف في ساقيته ، ويخرب حافتها بغير إذنه ، ويخلط حقه بحق غيره على وجه لا يتميز ، فلم يجز ذلك . ويجيء على قولنا " إن الماء لا يملك " أن حكم الماء في هذا النهر حكمه في نهر غير مملوك ، وأن الأسبق أحق بالسقي منه ، ثم الذي يليه ، على ما ذكرنا ; لأنه غير مملوك ، فكان الأسبق إليه أحق به ، كما لو كان في نهر غير مملوك

ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية