صفحة جزء
( 5851 ) مسألة ; قال : ( وإذا قال : قد طلقتك ، أو قد فارقتك ، أو قد سرحتك . لزمها الطلاق ) هذا يقتضي أن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ ; الطلاق ، والفراق ، والسراح ، وما تصرف منهن . وهذا مذهب الشافعي . وذهب أبو عبد الله بن حامد ، إلى أن صريح الطلاق لفظ الطلاق وحده ، وما تصرف منه لا غير . وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، إلا أن مالكا يوقع الطلاق به بغير نية ; لأن الكنايات الظاهرة لا تفتقر عنده إلى النية . وحجة هذا القول أن لفظ الفراق والسراح يستعملان في غير الطلاق كثيرا ، فلم يكونا صريحين فيه كسائر كناياته .

ووجه الأول أن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب بمعنى الفرقة بين الزوجين ، فكانا صريحين فيه ، كلفظ الطلاق ، قال الله تعالى { : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . } وقال { : فأمسكوهن بمعروف . } وقال سبحانه { : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . } وقال سبحانه { : فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . } وقول ابن حامد أصح ; فإن الصريح في الشيء ما كان نصا فيه لا يحتمل غيره ، إلا احتمالا بعيدا ، ولفظة الفراق والسراح إن وردا في القرآن بمعنى الفرقة بين الزوجين ، فقد وردا لغير ذلك المعنى وفي العرف كثيرا ، قال الله تعالى { : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . } وقال { : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } فلا معنى لتخصيصه بفرقة الطلاق ، على أن قوله { : أو فارقوهن بمعروف . } لم يرد به الطلاق ، وإنما هو ترك ارتجاعها ، وكذلك قوله { : أو تسريح بإحسان . }

ولا يصح قياسه على لفظ الطلاق ، فإنه مختص بذلك ، سابق إلى الأفهام من غير قرينة ولا دلالة ، بخلاف الفراق والسراح . فعلى كلا القولين ، إذا قال : طلقتك ، أو أنت طالق ، أو مطلقة . وقع الطلاق من غير نية . وإن قال : فارقتك . أو : أنت مفارقة ، أو سرحتك ، أو أنت مسرحة . [ ص: 295 ] فمن يراه صريحا أوقع به الطلاق من غير نية ، ومن لم يره صريحا لم يوقعه به ، إلا أن ينويه .

فإن قال : أردت بقولي : فارقتك أي بجسمي ، أو بقلبي أو بمذهبي ، أو سرحتك من يدي ، أو شغلي ، أو من حبسي ، أو أي سرحت شعرك . قبل قوله . وإن قال : أردت بقولي : أنت طالق أي : من وثاقي . أو قال : أردت أن أقول : طلبتك . فسبق لساني ، فقلت : طلقتك . ونحو ذلك ، دين فيما بينه وبين الله تعالى ، فمتى علم من نفسه ذلك ، لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه . قال أبو بكر : لا خلاف عن أبي عبد الله ، أنه إذا أراد أن يقول لزوجته : اسقيني ماء . فسبق لسانه فقال : أنت طالق ، أو أنت حرة . أنه لا طلاق فيه . ونقل ابن منصور عنه ، أنه سئل عن رجل حلف ، فجرى على لسانه غير ما في قلبه ، فقال : أرجو أن يكون الأمر فيه واسعا .

وهل تقبل دعواه في الحكم ؟ ينظر ; فإن كان في حال الغضب ، أو سؤالها الطلاق ، لم يقبل في الحكم ; لأن لفظه ظاهر في الطلاق ، وقرينة حاله تدل عليه ، فكانت دعواه مخالفة للظاهر من وجهين ، فلا تقبل ، وإن لم تكن في هذه الحال فظاهر كلام أحمد ، في رواية ابن منصور ، وأبي الحارث ، أنه يقبل قوله . وهو قول جابر بن زيد ، والشعبي ، والحكم ، حكاه عنهم أبو حفص ; لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد ، فقيل : كما لو قال ; أنت طالق ، أنت طالق . وقال : أردت بالثانية إفهامها . وقال القاضي : فيه روايتان ، هذه التي ذكرنا ، قال : وهي ظاهر كلام أحمد . والثانية ، لا يقبل . وهو مذهب الشافعي ; لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف ، فلم يقبل في الحكم ، كما لو أقر بعشرة ، ثم قال : زيوفا ، أو صغارا ، أو إلى شهر .

فأما إن صرح بذلك في اللفظ ، فقال : طلقتك من وثاقي ، أو فارقتك بجسمي ، أو سرحتك من يدي . فلا شك في أن الطلاق لا يقع ; لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه ، كالاستثناء والشرط . وذكر أبو بكر ، في قوله : أنت مطلقة . أنه إن نوى أنها مطلقة طلاقا ماضيا ، أو من زوج كان قبله ، لم يكن عليه شيء ، وإن لم ينو شيئا ، فعلى قولين ; أحدهما يقع . والثاني ، لا يقع . وهذا من قوله يقتضي أن تكون هذه اللفظة غير صريحة ، في أحد القولين . قال القاضي : والمنصوص عن أحمد ، أنه صريح ، وهو الصحيح ; لأن هذه متصرفة من لفظ الطلاق ، فكانت صريحة فيه ، كقوله : أنت طالق .

( 5852 ) فصل : فأما لفظة الإطلاق ، فليست صريحة في الطلاق ; لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ، ولا الاستعمال ، فأشبهت سائر كناياته . وذكر القاضي فيها احتمالا ، أنها صريحة ; لأنه لا فرق بين فعلت وأفعلت ، نحو عظمته وأعظمته ، وكرمته وأكرمته . وليس هذا الذي ذكره بمطرد ; فإنهم يقولون : حييته من التحية ، وأحييته من الحياة ، وأصدقت المرأة صداقا ، وصدقت حديثها تصديقا ، ويفرقون بين أقبل وقبل ، وأدبر ودبر ، وأبصر وبصر ، ويفرقون بين المعاني المختلفة بحركة أو حرف ، فيقولون : حمل لما في البطن ، وبالكسر لما على الظهر ، والوقر بالفتح الثقل في الأذن ، وبالكسر لثقل الحمل .

وها هنا فرق بين حل قيد النكاح وبين غيره ، بالتضعيف في أحدهما ، والهمزة في الآخر ، ولو كان معنى اللفظين واحدا لقيل طلقت الأسيرين ، والفرس ، والطائر ، فهو طالق ، وطلقت الدابة ، فهي طالق ، ومطلقة . ولم يسمع هذا في كلامهم ، وهذا مذهب الشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية