صفحة جزء
( 5859 ) مسألة ; ( قال أبو عبد الله : وإذا قال لها : أنت خلية ، أو أنت برية ، أو أنت بائن ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك . فهو عندي ثلاث ولكني أكره أن أفتي به ، سواء دخل بها أو لم يدخل ) أكثر الروايات عن أبي عبد الله ، كراهية الفتيا في هذه الكنايات ، مع ميله إلى أنها ثلاث ، وحكى ابن أبي موسى ، في " الإرشاد " عنه روايتين ; إحداهما ، أنها ثلاث . والثانية ، يرجع إلى ما نواه . اختارها أبو الخطاب . وهو مذهب الشافعي ، قال : يرجع إلى ما نوى ، فإن لم ينو شيئا وقعت واحدة .

ونحوه قول النخعي ، إلا أنه قال : يقع طلقة بائنة ; لأن لفظه يقتضي البينونة ، ولا يقتضي عددا . وروى حنبل ، عن أحمد ، ما يدل على هذا ; فإنه قال : يزيدها في مهرها إن أراد رجعتها . ولو وقع ثلاثا لم يبح له رجعتها ، ولو لم تبن لم يحتج إلى زيادة في مهرها . واحتج الشافعي بما روى أبو داود بإسناده ، { أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة ألبتة ، فأخبر [ ص: 299 ] النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وقال : والله ما أردت إلا واحدة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : آلله ما أردت إلا واحدة . فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمن عمر ، والثالثة في زمن عثمان . } قال علي بن محمد الطنافسي : ما أشرف هذا الحديث .

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنة الجون : " الحقي بأهلك " . ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليطلق ثلاثا وقد نهى عن ذلك ، ولأن الكنايات مع النية كالصريح ، فلم يقع به عند الإطلاق أكثر من واحدة ، كقوله : أنت طالق . وقال الثوري ، وأصحاب الرأي : إن نوى ثلاثا فثلاث ، وإن نوى اثنتين أو واحدة وقعت واحدة ، ولا يقع اثنتان ; لأن الكناية تقضي البينونة دون العدد ، والبينونة بينونتان صغرى وكبرى ، فالصغرى بالواحدة ، والكبرى بالثلاث ، ولو أوقعنا اثنتين كان موجبه العدد ، وهي لا تقتضيه .

وقال ربيعة ، ومالك : يقع بها الثلاث ، وإن لم ينو إلا في خلع أو قبل الدخول ، فإنها تطلق واحدة ; لأنها تقتضي البينونة ، والبينونة تحصل في الخلع وقبل الدخول بواحدة ، فلم يزد عليها ; لأن اللفظ لا يقتضي زيادة عليها ، وفي غيرهما يقع الثلاث ضرورة أن البينونة لا تحصل إلا بها ، ووجه أنها ثلاث أنه قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي عن علي ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، أنها ثلاث . قال أحمد في الخلية والبرية والبتة : قول علي وابن عمر قول صحيح ثلاثا . وقال علي ، والحسن ، والزهري ، في البائن : إنها ثلاث .

وروى النجاد ، بإسناده عن نافع ، أن رجلا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال : إن ظئري هذا طلق امرأته ألبتة قبل أن يدخل بها ، فهل تجدان له رخصة ؟ فقالا : لا ، ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة ، فسلهم ، ثم ارجع إلينا ، فأخبرنا . فسألهم ، فقال أبو هريرة : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . وقال ابن عباس هي ثلاث . وذكر عن عائشة متابعتهما . وروى النجاد بإسناده ، أن عمر رضي الله عنه جعل ألبتة واحدة ، ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات . وهذه أقوال علماء الصحابة ، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ، فكان إجماعا ، ولأنه طلق امرأته بلفظ يقتضي البينونة ، فوجب الحكم بطلاق تحصل به البينونة ، كما لو طلق ثلاثا ، أو نوى الثلاث ، واقتضاؤه للبينونة ظاهر في قوله : أنت بائن . وكذا في قوله : ألبتة ; لأن البت القطع ، فكأنه قطع النكاح كله ، ولذلك يعبر به عن الطلاق الثلاث ، كما قالت امرأة رفاعة إن رفاعة طلقني فبت طلاقي . وبتله هو القطع أيضا ; ولذلك قيل في مريم البتول ; لانقطاعها عن النكاح .

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل ، وهو الانقطاع عن النكاح بالكلية . وكذلك الخلية والبرية يقتضيان الخلو من النكاح والبراءة منه ، وإذا كان للفظ معنى ، فاعتبره الشرع ، إنما يعتبر فيما يقتضيه ويؤدي معناه ، ولا سبيل إلى البينونة بدون الثلاث ، فوقعت ضرورة الوفاء بما يقتضيه لفظه ، ولا يمكن إيقاع واحدة بائن ; لأنه لا يقدر على ذلك بصريح الطلاق ، فكذلك بكناياته ، ولم يفرقوا بين المدخول بها وغيرها ; لأن الصحابة لم يفرقوا ، ولأن [ ص: 300 ] كل لفظة أوجبت الثلاث في المدخول بها ، أوجبتها في غيرها ، كقوله : أنت طالق ثلاثا . فأما حديث ركانة ; فإن أحمد ضعف إسناده ، فلذلك تركه . وأما قوله عليه السلام لابنة الجون : " الحقي بأهلك " .

فيدل على أن هذه اللفظة لا تقتضي الثلاث ، وليست من اللفظات التي قال الصحابة فيها بالثلاث ، ولا هي مثلها ، فيقصر الحكم عليها . وقولهم : إن الكناية بالنية كالصريح . قلنا : نعم ، إلا أن الصريح ينقسم إلى ثلاث تحصل بها البينونة ، وإلى ما دونها مما لا تحصل به البينونة ، فكذلك الكناية تنقسم كذلك ، فمنها ما يقوم مقام الصريح المحصل للبينونة ، وهو هذه الظاهرة ، ومنها ما يقوم مقام الواحدة ، وهو ما عداها ، والله أعلم . ( 5860 ) فصل : وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد ، والخرقي ; أن الطلاق يقع بهذه الكنايات من غير نية ، كقول مالك ; لأنه اشتهر استعمالها فيه ، فلم تحتج إلى نية كالصريح .

ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يقع إلا بنية ; لقوله : وإذا أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه . فمفهومه أن غير الصريح لا يقع إلا بنية ، ولأن هذا كناية ، فلم يثبت حكمه بغير نية ، كسائر الكنايات .

التالي السابق


الخدمات العلمية