صفحة جزء
( 6294 ) فصل : وإن قذف محصنا مرات ، فحد واحد ، رواية واحدة ، سواء قذفه بزنا آخر ، أو كرر القذف بالأول ; [ ص: 73 ] لأنهما حدان ترادف سببهما ، فتداخلا ، كالزنا مرارا . وإن قذفه فحد له ، ثم قذفه مرة أخرى بذلك الزنا ، فلا حد عليه ; لأنه قد تحقق كذبه فيه بالحد ، فلا حاجة إلى إظهار كذبه فيه ثانيا ، ولما جلد عمر أبا بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة ، أعاد قذفه ، فهم عمر بإعادة الحد عليه ، فقال له علي : إن جلدته فارجم صاحبه . فتركه . ولكنه يعزر تعزير السب والشتم . وذكر القاضي أن فيه رواية أخرى ، أن عليه الحد ثانيا ; لأنه قذف ثان بعد إقامة الحد عليه ، فأشبه ما لو قذفه بزنا ثان .

وأما إن قذفه بزنا آخر ، فعليه حد آخر ; لأنه قذف لمحصن لم يحد فيه ، فوجب أن يتعقبه الحد كالأول ، ولأن سبب الحد وجد بعد إقامته ، فأعيد عليه ، كالزنا والسرقة . وعن أحمد رواية أخرى ، لا حد عليه في الثاني ; لأنه حد لصاحبه مرة ، فلا يعاد عليه الحد ، كما لو قذفه بالزنا الأول . وعلى هذه الرواية يعزر تعزير السب والشتم . وهذه الرواية الثانية فيما إذا تقارب القذف الثاني من الحد ، فأما إذا تباعد زمانهما ، وجب الحد بكل حال ; لأنه لا يجوز أن يكون حده مرة من أجله فوجب إطلاق عرضه له . ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا ، إلا أنهم حكوا عن الشافعي ، فيما إذا أعاد القذف بزنا ثان قبل إقامة الحد ، قولين : أحدهما ، يجب حد واحد . والثاني ، يجب حدان .

فأما إن قذف أجنبية ، ثم تزوجها ، ثم قذفها ، فعليه الحد للقذف الأول ، ولا شيء عليه للثاني . في قول أبي بكر وحكي نحو ذلك عن الزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي ; لأنه لو قذف أجنبية قذفين ، لم يجب عليه أكثر من حد واحد . واختار القاضي أنه إن قذفها بالزنا الأول ، لم يكن عليه أكثر من حد واحد ، وليس له إسقاطه إلا بالبينة ، وإن قذفها بزنا آخر ، فهو على الروايتين فيما إذا قذف الأجنبية ، ثم حد لها ، ثم قذفها بزنا آخر ، فإن قلنا : يجب حدان . فطالبت المرأة بموجب القذف الأول ، فأقام به بينة ، سقط عنه حده ، ولم يجب في الثاني حد ; لأنها غير محصنة ، وإن لم يقم بينة ، حد لها .

ومتى طالبته بموجب الثاني ، فأقام به بينة ، أو لاعنها ، سقط ، وإلا وجب عليه الحد أيضا ; لأن هذا القذف موجبه غير موجب الأول ، فإن الأول موجبه الحد على الخصوص ، والثاني موجبه اللعان أو الحد . وإن بدأت بالمطالبة بموجب الثاني ، فأقام بينة به ، أو لاعن ، سقط حده ، ولها المطالبة بموجب الأول ، فإن أقام به بينة ، وإلا حد . قال القاضي : إن أقام بالثاني بينة ، سقط موجب الأول . وهو مذهب الشافعي ; لأنها صارت غير محصنة ، فلا يثبت لها حد المحصنات . ولنا أن سقوط إحصانها في الثاني ، لا يوجب سقوطه فيما قبل ذلك ، كما لو استوفى حده قبل إقامة البينة . ولعل هذا ينبني على ما إذا قذف رجلا فلم يقم الحد على القاذف حتى زنى المقذوف .

وإن لم يقم بينة عليهما ، ولم يلتعن للثاني ، لم يجب إلا حد واحد . نص عليه أحمد ; ولأنهما حدان من جنسين ترادفا ، فلم يقم أحدهما ، فتداخلا ، كما لو قذفها وهي أجنبية قذفين . ولو قذف زوجته ، فحد لها ، ثم أعاد قذفها بذلك الزنا ، لم يحد لها ; لما ذكرنا في إعادة قذف الأجنبي ، لكن يعزر للأذى والسب ، وليس له إسقاط التعزير باللعان ; لأنه تعزير سب ، لا تعزير قذف ، إلا على الرواية التي تلزم الأجنبي حدا ثانيا بإعادة القذف ، فإنه يلزمه هاهنا حد ، وله إسقاطه باللعان . وإن ولد له ولد بعد حده ، فذكر أنه [ ص: 74 ] من ذلك الزنا ، فله اللعان لإسقاطه ، على كلتا الروايتين ; لأنه محتاج إلى نفيه .

وإن قذفها في الزوجية قذفين بزناءين ، فليس عليه إلا حد واحد ، ويكفيه لعان واحد ; لأنه يمين ، فإذا كان الحقان لواحد كفته ، يمين واحدة ، لكنه يحتاج أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءين . وفارق ما إذا قذف زوجتين ، حيث لا يكفيه لعان واحد ; لأن اليمين وجبت لكل واحد منهما ، فلا تتداخل ، كسائر الأيمان . وإن أقام البينة بالأول ، سقط عنه موجب الثاني ; لأنه زال إحصانها ، ولا لعان ، إلا أن يكون فيه نسب يريد نفيه . وإن أقامها بالثاني لم يسقط الحد الأول ، وله إسقاطه باللعان ، إلا على قول القاضي ، فإنه يسقط بإقامة البينة على الثاني .

وإن قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الأول ، فلا حد عليه ; لأنه قد حققه بلعانه ، ويحتمل أن يحد ، كما لو قذفها به أجنبي . وهو قول القاضي . ولو قذفها به أجنبي ، أو بزنا غيره ، فعليه الحد ، في قول عامة أهل العلم ، منهم ابن عباس ، والزهري ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو عبيد وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأي ، أنهم قالوا : إن لم ينف بلعانها ولدا ، حد قاذفها ، وإن نفاه ، فلا حد على قاذفها ; لأنه منتف عن زوجها بالشرع . ولنا ما روى ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من رماها ، أو ولدها ، فعليه الحد } . رواه أبو داود .

وهذا نص ، فإنه نص على من رماها ، مع أن ولدها منفي عن الملاعن شرعا ، ولأنه لم يثبت زناها ، ولا زال إحصانها ، فيلزم قاذفها الحد بقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ، وكما لو لم ينف ولدها . فأما إن أقام بينة ، فقذفها قاذف بذلك الزنا ، أو بغيره ، فلا حد عليه ; لأنه قد زال إحصانها ، ولأن هذا القذف لم يدخل المعرة عليها ، وإنما دخلت المعرة بقيام البينة ، ولكنه يعزر تعزير السب والأذى . وهكذا كل من قامت البينة بزناه ، لا حد على قاذفه . وبه قال الشافعي ، وأصحاب الرأي . ولكنه يعزر تعزير السب والأذى ، ولا يملك الزوج إسقاطه عن نفسه باللعان ; لما قدمناه .

وإن قذف زوجته ولاعنها ، ثم قذفها بزنا آخر ، فعليه الحد ; لأنها بانت منه باللعان ، وصارت أجنبية ، إلا أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية ، فعند ذلك إن كان ثم نسب يريد نفيه ، فله الملاعنة لنفيه ، وإلا لزمه الحد ، ولا لعان بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية