صفحة جزء
( 6824 ) فصل : ولا خلاف بين أهل العلم ، في أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها ، ويشق عليها ; لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل ، والتخفيف عنه ، فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ، ويجحف به ، كالزكاة ، ولأنه لو كان الإجحاف مشروعا ، كان الجاني أحق به ; لأنه موجب جنايته ، وجزاء فعله ، فإذا لم يشرع في حقه ، ففي حق غيره أولى .

واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم فقال أحمد : يحملون على قدر ما يطيقون . فعلى هذا لا يتقدر شرعا ، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم ، فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي . وهذا مذهب مالك ; لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ، ولا يثبت بالرأي والتحكم ، ولا نص في هذه المسألة ، [ ص: 309 ] فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم ، كمقادير النفقات .

وعن أحمد ، رواية أخرى ، أنه يفرض على الموسر نصف مثقال ; لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة ، فكان معتبرا بها ، ويجب على المتوسط ربع مثقال ; لأن ما دون ذلك تافه ، لكون اليد لا تقطع فيه ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لا تقطع اليد في الشيء التافه ، وما دون ربع دينار لا قطع فيه . وهذا اختيار أبي بكر ، ومذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة : أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم ، وليس لأقله حد ; لأن ذلك مال يجب على سبيل المواساة للقرابة ، فلم يتقدر أقله ، كالنفقة . قال : ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك . والصحيح الأول ; لما ذكرنا من أن التقدير إنما يصار إليه بتوقيف ، ولا توقيف فيه ، وأنه يختلف بالغنى والتوسط ، كالزكاة والنفقة ، ولا يختلف بالقرب والبعد كذلك .

واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه ; قال بعضهم : يتكرر الواجب في الأعوام الثلاثة ، فيكون الواجب فيها على الغني دينارا ونصفا ، وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار ; لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة ، فيتكرر بتكرر الحول ، كالزكاة . وقال بعضهم : لا يتكرر ; لأن في إيجاب زيادة على النصف ، إيجابا لزيادة على أقل الزكاة ، فيكون مضرا . ويعتبر الغنى والتوسط عند رأس الحول ; لأنه حال الوجوب ، فاعتبر الحال عنده ، كالزكاة .

وإن اجتمع من عدد العاقلة في درجة واحدة عدد كثير ، قسم الواجب على جميعهم . فيلزم الحاكم كل إنسان على حسب ما يراه وإن قل . وعلى الوجه الآخر ، يجعل على المتوسط نصف ما على الغني ، ويعم بذلك جميعهم . وهذا أحد قولي الشافعي . وقال في الآخر : يخص الحاكم من شاء منهم ، فيفرض عليهم هذا القدر الواجب ، لئلا ينقص عن القدر الواجب ، ويصير إلى الشيء التافه ، ولأنه يشق ، فربما أصاب كل واحد قيراط ، فيشق جمعه .

ولنا ، أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء ، كما لو قلوا ، وكالميراث . وأما التعلق بمشقة الجمع فغير صحيح ; لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من مشقة الجمع ، ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها ، فلا يترك لها الدليل ، ثم هي معارضة بخفة الواجب على كل واحد ، وسهولة الواجب عليهم ، ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد ، فإن خصه بالاجتهاد فعليه فيه مشقة ، وربما لم يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك ، فيتعذر الإيجاب ، وإن خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يخير بين أن يوجب على إنسان شيئا بشهوته من غير دليل ، وبين أن لا يوجب عليه ، ولا نظير له ، وربما ارتشى من بعضهم واتهم ، وربما امتنع من فرض عليه شيء من أدائه ; لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية