صفحة جزء
( 763 ) مسألة : قال : ( وإن دعا في تشهده بما ذكر في الأخبار فلا بأس ) وجملته أن الدعاء في الصلاة بما وردت به الأخبار جائز . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : إن هؤلاء يقولون : لا يدعو في المكتوبة إلا بما في القرآن . فنفض يده كالمغضب ، وقال : من يقف على هذا ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قالوا ، قلت لأبي عبد الله : إذا جلس في الرابعة يدعو بعد التشهد بما شاء ؟ قال : بما شاء لا أدري ، ولكن يدعو بما يعرف وبما جاء . فقلت : على حديث عمرو بن سعد ، قال : سمعت عبد الله ، يقول : إذا جلس أحدكم في صلاته ، وذكر التشهد ، ثم ليقل : " اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم . اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون ، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك الصالحون ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا [ ص: 321 ] تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد " . رواه الأثرم .

وعن عبد الله قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، قال : وعلمنا أن نقول : اللهم أصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين عليك بها ، قابليها ، وأتمها علينا } ، رواه أبو داود .

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه { قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم } متفق عليه . وعن أبي هريرة ، قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : ما تقول في الصلاة ؟ قال : أتشهد ، ثم أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، أما والله ما أحسن دندنتك ، ولا دندنة معاذ . فقال : حولها ندندن } . رواه أبو داود .

وفي حديث جابر { ، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد ، فقال في آخره : أسأل الله الجنة ، وأعوذ بالله من النار } . وقول الخرقي : بما ذكر في الأخبار . يعني أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف ، رحمة الله عليهم ; فإن أحمد ذهب إلى حديث ابن مسعود في الدعاء ، وهو موقوف عليه ، وقال : يدعو بما جاء وبما يعرف .

ولم يقيده بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول في سجوده : اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك . وقال : كان عبد الرحمن يقوله في سجوده . وقال : سمعت الثوري يقوله في سجوده .

( 764 ) فصل : ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها ، بما يشبه كلام الآدميين وأمانيهم ، مثل : اللهم ارزقني جارية حسناء ، ودارا قوراء ، وطعاما طيبا ، وبستانا أنيقا . وقال الشافعي : يدعو بما أحب ; لقوله عليه السلام ، في حديث ابن مسعود ، في التشهد : " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه " . متفق عليه .

ولمسلم : " ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء أو ما أحب " . وفي حديث أبي هريرة { : إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع ، ثم يدعو لنفسه ما بدا له } . ولنا قوله عليه السلام { : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن } . أخرجه مسلم . وهذا من كلام الآدميين ، ولأنه كلام آدمي يخاطب بمثله ، أشبه تشميت العاطس ، ورد السلام ، والخبر محمول على أنه يتخير من الدعاء المأثور وما أشبهه .

( 765 ) فصل : فأما الدعاء بما يتقرب به إلى الله عز وجل مما ليس بمأثور ، ولا يقصد به ملاذ الدنيا ، فظاهر كلام الخرقي وجماعة من أصحابنا أنه لا يجوز ، ويحتمله كلام أحمد ; لقوله : ولكن يدعو بما جاء وبما [ ص: 322 ] يعرف . وحكى عنه ابن المنذر ، أنه قال : لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه ; من حوائج دنياه وآخرته . وهذا هو الصحيح ، إن شاء الله تعالى ; لظواهر الأحاديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثم ليتخير من الدعاء " ، وقوله : " ثم يدعو لنفسه بما بدا له " . وقوله : " ثم ليدع بعد بما شاء " . وروي عن أنس ، قال { : جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : علمني دعاء أدعو به في صلاتي . فقال : احمدي الله عشرا ، وسبحي الله عشرا ، ثم سلي ما شئت . يقول : نعم نعم نعم } . رواه الأثرم

، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون في صلاتهم بما لم يتعلموه ، فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل : " ما تقول في صلاتك ؟ " قال : أتشهد ، ثم أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار . فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ذلك من غير أن يكون علمه إياه ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء } . لم يعين لهم ما يدعون به ، فدل على أنه أباح لهم كل الدعاء ، إلا ما خرج منه بالدليل في الفصل الذي قبل هذا ، وقد روي عن عائشة ، أنها كانت إذا قرأت { : فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } . قالت : من علينا ، وقنا عذاب السموم .

وعن جبير بن نفير ، أنه سمع أبا الدرداء ، وهو يقول في آخر صلاته ، وقد فرغ من التشهد : أعوذ بالله من النفاق . ولأنه دعاء يتقرب به إلى الله تعالى ، فأشبه الدعاء المأثور .

( 766 ) فصل : وهل يجوز أن يدعو لإنسان بعينه في صلاته ؟ على روايتين : إحداهما يجوز . قال الميموني : سمعت أبا عبد الله يقول لابن الشافعي : أنا أدعو لقوم منذ سنين في صلاتي ; أبوك أحدهم . وقد روي ذلك عن علي ، وأبي الدرداء ، واختاره ابن المنذر { ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، والمستضعفين من المؤمنين } . ولأنه دعاء لبعض المؤمنين . فأشبه ما لو قال : " رب اغفر لي ولوالدي " . والأخرى لا يجوز .

وكرهه عطاء والنخعي ; لشبهه بكلام الآدميين ، ولأنه دعاء لمعين ، فلم يجز ، كتشميت العاطس ، وقد دل على المنع من تشميت العاطس حديث معاوية بن الحكم السلمي .

( 767 ) فصل : ويستحب للمصلي نافلة إذا مرت به آية رحمة أن يسألها ، أو آية عذاب أن يستعيذ منها ; لما روى حذيفة ، { أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم ، وفي سجوده : سبحان ربي الأعلى ، وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها وسأل ، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ . } رواه أبو داود .

وعن عوف بن مالك ، قال { : قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقام فقرأ سورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ . قال : ثم ركع بقدر قيامه ، يقول في ركوعه : سبحان ذي الجبروت والملكوت . والكبرياء والعظمة } . رواه أبو داود . ولا يستحب ذلك في الفريضة ; لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في فريضة ، مع كثرة من وصف قراءته فيها .

( 768 ) فصل : ويستحب للإمام أن يرتل القراءة والتسبيح والتشهد بقدر ما يرى أن من خلفه ممن يثقل لسانه قد أتى عليه ، وأن يتمكن من ركوعه وسجوده ، قدر ما يرى أن الكبير والصغير والثقيل قد أتى عليه . فإن [ ص: 323 ] خالف وأتى بقدر ما عليه ، كره وأجزأه .

ولا يستحب له التطويل كثيرا ، فيشق على من خلفه ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من أم الناس فليخفف } . وأما المنفرد فله الإطالة في ذلك كله ، ما لم يخرجه إلى حال يخاف السهو ، فتكره الزيادة عليه ، فقد روي عن عمار أنه صلى صلاة أوجز فيها ، فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أبادر الوسواس . ويستحب للإمام إذا عرض في الصلاة عارض لبعض المأمومين ، يقتضي خروجه ، أن يخفف ; فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز ; كراهية أن أشق على أمه } . رواه أبو داود .

التالي السابق


الخدمات العلمية