صفحة جزء
[ ص: 53 ] ( 73 ) مسألة ، قال أبو القاسم رحمه الله : ( وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس ) لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ ، ولا نعلم أحدا خالف فيه ، وأما بعد الدبغ فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضا ، وهو إحدى الروايتين عن مالك ، ويروى ذلك عن عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعمران بن حصين ، وعائشة رضي الله عنهم . وعن أحمد رواية أخرى : أنه يطهر منها جلد ما كان طاهرا في حال الحياة .

وروي نحو هذا عن عطاء ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، ويحيى الأنصاري ، وسعيد بن جبير ، والأوزاعي ، والليث ، والثوري ، وابن المبارك ، وإسحاق ، وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة رضي الله عنهم ، مع اختلافهم فيما هو طاهر في الحياة ، وهو مذهب الشافعي ، وهو يرى طهارة الحيوانات كلها ، إلا الكلب والخنزير ، فيطهر عنده كل جلد إلا جلدهما . وله في جلد الآدمي وجهان . وقال أبو حنيفة : يطهر كل جلد بالدبغ إلا جلد الخنزير .

وحكي عن أبي يوسف : أنه يطهر كل جلد . وهو رواية عن مالك ، ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا دبغ الإهاب فقد طهر . } متفق عليه ; ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها ؟ قالوا : إنها ميتة . قال : إنما حرم أكلها . } وفي لفظ : { ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به } . متفق عليه ; ولأنه إنما نجس باتصال الدماء والرطوبات به بالموت ، والدبغ يزيل ذلك ، فيرتد الجلد إلى ما كان عليه في حال الحياة .

ولنا ما روى عبد الله بن عكيم ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } . رواه أبو داود ، في " سننه " ، والإمام أحمد ، في " مسنده " وقال الإمام أحمد : إسناد جيد ، يرويه يحيى بن سعيد عن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عكيم . وفي لفظ : { أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أو شهرين } وهو ناسخ لما قبله ; لأنه في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه دال على سبق الترخيص ، وأنه متأخر عنه ، لقوله " كنت رخصت لكم " وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل : هذا مرسل ; لأنه من كتاب لا يعرف حامله . قلنا : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كلفظه ولولا ذلك لم يكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، وقد كتب إلى ملوك الأطراف ، وإلى غيرهم فلزمتهم الحجة به ، وحصل له البلاغ ، ولو لم يكن حجة لم تلزمهم الإجابة ، ولا حصل به بلاغ ، ولكان لهم عذر في ترك الإجابة ; لجهلهم بحامل الكتاب وعدالته .

وروى أبو بكر الشافعي بإسناده ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 54 ] قال : { لا تنتفعوا من الميتة بشيء } . وإسناده حسن ; ولأنه جزء من الميتة ، فكان محرما ، لقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } فلم يطهر بالدبغ كاللحم ; ولأنه حرم بالموت ، فكان نجسا كما قبل الدبغ .

وقولهم : إنه إنما نجس لاتصال الدماء والرطوبات به ، غير صحيح ; لأنه لو كان نجسا لذلك لم ينجس ظاهر الجلد ، ولا ما ذكاه المجوسي والوثني ، ولا ما قد نصفين ، ولا متروك التسمية ; لعدم علة التنجيس ، ولوجب الحكم بنجاسة الصيد الذي لم تنسفح دماؤه ورطوباته . ثم كيف يصح هذا عند الشافعي ، وهو يحكم بنجاسة الشعر والصوف والعظم ؟ وأبو حنيفة يطهر جلد الكلب وهو نجس في الحياة . ( 74 ) فصل : هل يجوز الانتفاع به في اليابسات ؟ فيه روايتان : إحداهما : لا يجوز ; لقوله : صلى الله عليه وسلم { لا تنتفعوا من الميتة بشيء ، } وقوله : صلى الله عليه وسلم { لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } والثانية : يجوز الانتفاع به ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا أخذوا إهابها فانتفعوا به } .

وفي لفظ : { ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به ; } ولأن الصحابة رضي الله عنهم ، لما فتحوا فارس ، انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة ; ولأنه انتفاع من غير ضرر ، أشبه الاصطياد بالكلب ، وركوب البغل والحمار .

التالي السابق


الخدمات العلمية