صفحة جزء
[ ص: 236 ] فصل في الهجرة : وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام . قال الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } . الآيات . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أنا بريء من مسلم بين مشركين ، لا تراءا ناراهما } . رواه أبو داود .

ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ، ويرون ناره ، إذا أوقدت . في آي وأخبار سوى هذين كثير . وحكم الهجرة باق ، لا ينقطع إلى يوم القيامة . في قول عامة أهل العلم . وقال قوم : قد انقطعت الهجرة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا هجرة بعد الفتح } . وقال : { قد انقطعت الهجرة ، ولكن جهاد ونية } .

وروي { أن صفوان بن أمية لما أسلم ، قيل له : لا دين لمن لم يهاجر . فأتى المدينة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر . قال : ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، أقروا على مساكنكم ، فقد انقطعت الهجرة ، ولكن جهاد ونية } . روى ذلك كله سعيد .

ولنا ما روى معاوية ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } . رواه أبو داود . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ، قال : { لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد } . رواه سعيد ، وغيره ، مع إطلاق الآيات والأخبار الدالة عليها ، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان .

وأما الأحاديث الأول ، فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح . وقوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار ، فإذا فتح لم يبق بلد الكفار ، فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة ، وإنما الهجرة إليه .

إذا ثبت هذا ، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب ; أحدها ، من تجب عليه ، وهو من يقدر عليها ، ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار ، فهذا تجب عليه الهجرة ; لقول الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب .

ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه ، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . الثاني ; من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها ، إما لمرض ، أو إكراه على الإقامة ، أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم ، فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } . ولا توصف باستحباب ; لأنها غير مقدور عليها .

[ ص: 237 ] والثالث ، من تستحب له ، ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها ، لكنه يتمكن من إظهار دينه ، وإقامته في دار الكفر ، فتستحب له ، ليتمكن من جهادهم ، وتكثير المسلمين ، ومعونتهم ، ويتخلص من تكثير الكفار ، ومخالطتهم ، ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه .

وروينا { أن نعيم النحام ، حين أراد أن يهاجر ، جاءه قومه بنو عدي ، فقالوا له : أقم عندنا ، وأنت على دينك ، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك ، واكفنا ما كنت تكفينا . وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم ، فتخلف عن الهجرة مدة ، ثم هاجر بعد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قومك كانوا خيرا لك من قومي لي ، قومي أخرجوني ، وأرادوا قتلي ، وقومك حفظوك ومنعوك . فقال : يا رسول الله : بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله ، وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة ، وطاعة الله أو نحو هذا القول } .

التالي السابق


الخدمات العلمية