صفحة جزء
( 7603 ) مسألة ; قال : ومن غل من الغنيمة ، حرق رحله كله ، إلا المصحف ، وما فيه روح الغال : هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، فلا يطلع الإمام عليه ، ولا يضعه مع الغنيمة ، فحكمه أن يحرق رحله كله . وبهذا قال الحسن ، وفقهاء الشام ، منهم مكحول ، والأوزاعي ، والوليد بن هشام ، ويزيد بن يزيد بن جابر . وأتي سعيد بن عبد الملك بغال ، فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك ، فلم يعبه . وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل ، أن يحرق رحله .

رواهما سعيد ، في سننه . وقال ومالك ، والليث ، والشافعي ، وأصحاب الرأي : لا يحرق ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق } ، فإن عبد الله بن عمرو روى ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة ، أمر بلالا فنادى في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ، ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر ، فقال : يا رسول الله ، هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة . فقال : سمعت بلالا نادى ثلاثا ؟ . قال : نعم قال فما منعك أن تجيء به ؟ . فاعتذر ، فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة ، فلن أقبله منك } . أخرجه أبو داود .

ولأن إحراق المتاع إضاعة له ، وقد { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . } ولنا ; ما روى صالح بن محمد بن زرارة ، قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتي برجل قد غل ، فسأل سالما عنه ، فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا وجدتم الرجل قد غل ، فاحرقوا متاعه ، واضربوه } . قال فوجدنا في متاعه مصحفا ، فسأل سالما عنه ، فقال : بعه ، وتصدق بثمنه . أخرجه سعيد ، وأبو داود ، والأثرم .

وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال } . فأما حديثهم ، [ ص: 246 ] فلا حجة لهم فيه ، فإن الرجل لم يعترف أنه أخذ ما أخذه على سبيل الغلول ، ولا أخذه لنفسه ، وإنما توانى في المجيء به ، وليس الخلاف فيه ، ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائبا معتذرا ، والتوبة تجب ما قبلها ، وتمحو الحوبة .

وأما النهي عن إضاعة المال ، فإنما نهي عنه إذا لم تكن فيه مصلحة ، فأما إذا كان فيه مصلحة ، فلا بأس به ، ولا يعد تضييعا ، كإلقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق ، وقطع يد العبد السارق ، مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه ، فأكله إتلافه ، وإنفاقه إذهابه ، ولا يعد شيء من ذلك تضييعا ولا إفسادا ، ولا ينهى عنه . وأما المصحف ، فلا يحرق ; لحرمته ، ولما تقدم من قول سالم فيه ، والحيوان لا يحرق ; { لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار إلا ربها } ، ولحرمة الحيوان في نفسه ، ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور بإحراقه . وهذا لا خلاف فيه . ولا تحرق آلة الدابة أيضا .

نص عليه أحمد ; لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ، ولأنها تابعة لما يحرق ، فأشبه جلد المصحف وكيسه . وقال الأوزاعي : يحرق سرجه وإكافه . ولنا ، أنه ملبوس حيوان ، فلا يحرق ، كثياب الغال . ولا تحرق ثياب الغال التي عليه ; لأنه لا يجوز تركه عريانا ، ولا ما غل ; لأنه من غنيمة المسلمين . قيل لأحمد : فالذي أصاب في الغلول ، أي شيء يصنع به ؟ قال : يرفع إلى المغنم .

وكذلك قال الأوزاعي . ولا سلاحه ; لأنه يحتاج إليه للقتال ، ولا نفقته ; لأن ذلك مما لا يحرق عادة ، وجميع ذلك ، أو ما أبقت النار من حديد أو غيره ، فهو لصاحبه ; لأن ملكه كان ثابتا عليه ، ولم يوجد ما يزيله ، وإنما عوقب بإحراق متاعه ، فما لم يحترق يبقى على ما كان . ويحتمل أن يباع المصحف ، ويتصدق به ; لقول سالم فيه .

وإن كان معه شيء من كتب الحديث أو العلم ، فينبغي أن لا تحرق أيضا ; لأن نفع ذلك يعود إلى الدين ، وليس المقصود الإضرار به في دينه ، وإنما القصد الإضرار به في شيء من دنياه .

التالي السابق


الخدمات العلمية