صفحة جزء
( 7618 ) فصل : إذا حاصر الإمام حصنا ، لزمته مصابرته ، ولا ينصرف عنه إلا بخصلة من خصال خمس أحدها ، أن يسلموا ، فيحرزوا بالإسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } وإن أسلموا بعد الفتح ، عصموا دماءهم دون أموالهم ، ويرقون .

الثانية ، أن يبذلوا مالا على الموادعة ، فيجوز قبوله منهم ، سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا يؤخذ منهم كل عام ، فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية ، فبذلوها ، لزمه قبولها منهم ، وحرم قتالهم ، لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وإن بذلوا مالا على غير وجه الجزية ، فرأى المصلحة في قبوله ، قبله ، ولا يلزمه قبوله إذا لم ير المصلحة فيه .

الثالثة ، أن يفتحه . الرابعة ، أن يرى المصلحة في الانصراف عنه ، إما لضرر في الإقامة ، وإما لليأس منه ، وإما لمصلحة ينتهزها تفوت بإقامته ، فينصرف عنه لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا ، فقال : إنا قافلون إن شاء الله غدا فقال المسلمون : أنرجع عنه ولم نفتحه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اغدوا على القتال فغدوا عليه ، فأصابهم الجراح ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قافلون غدا . فأعجبهم ، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم } متفق عليه [ ص: 252 ]

الخامسة ، أن ينزلوا على حكم حاكم ، فيجوز ، لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما حاصر بني قريظة ، رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك } والكلام فيه في فصلين ، أحدهما ، صفة الحاكم .

والثاني ، صفة الحكم فيعتبر فيه سبعة شروط ، أن يكون الحاكم حرا ، مسلما ، عاقلا ، بالغا ، ذكرا ، عدلا ، فقيها ، كما يشترط في حاكم المسلمين .

ويجوز أن يكون أعمى ، لأن عدم البصر لا يضر في مسألتنا لأن المقصود رأيه ، ومعرفة المصلحة في أحد أقسام الحكم ، ولا يضر عدم البصر فيه ، بخلاف القضاء ، فإنه لا يستغني عن البصر ، ليعرف المدعي من المدعى عليه ، والشاهد من المشهود له والمشهود عليه ، والمقر من المقر له ويعتبر من الفقه هاهنا ما يتعلق بهذا الحكم ، مما يجوز فيه ، ويعتبر له ، ونحو ذلك .

ولا يعتبر فقهه في جميع الأحكام التي لا تعلق لها بهذا لهذا حكم سعد بن معاذ ، ولم يثبت أنه كان عالما بجميع الأحكام وإذا حكموا رجلين جاز ، ويكون الحكم ما اتفقا عليه وإن جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام ، جاز ، لأنه لا يختار إلا من يصلح وإن نزلوا على حكم رجل منهم ، أو جعلوا التعيين إليهم ، لم يجز ( أهل الكتاب ) لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح ، وإن عينوا رجلا يصلح ، فرضيه الإمام ، جاز ( أهل الكتاب ) ، لأن بني قريظة رضوا بحكم سعد بن معاذ وعينوه ، فرضيه النبي صلى الله عليه وسلم وأجاز حكمه .

وقال { لقد حكمت فيهم بحكم الله } وإن مات من اتفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح ، قام مقامه ( أهل الكتاب ) ، وإن لم يتفقوا على من يقوم مقامه ، أو طلبوا حكما لا يصلح ، ردوا إلى مأمنهم ، وكانوا على الحصار حتى يتفقوا ، وكذلك إن رضوا باثنين ، فمات أحدهما ، فاتفقوا على من يقوم مقامه ( أهل الكتاب ) ، جاز ، وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إن رضوا بتحكيم من لم تجتمع الشرائط فيه ، ووافقهم الإمام عليه ، ثم بان أنه لا يصلح ، لم يحكم ، ويردون إلى مأمنهم كما كانوا .

وأما صفة الحكم ، فإن حكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم { لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة } وإن حكم بالمن على المقاتلة ، وسبي الذرية فقال القاضي : يلزم حكمه ، وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه ، فكان له المن ، كالإمام في الأسير .

واختار أبو الخطاب أن حكمه لا يلزم ، لأن عليه أن يحكم بما فيه الحظ ، ولا حظ للمسلمين في المن وإن حكم بالمن على الذرية فينبغي أن لا يجوز ، لأن الإمام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ، ويحتمل الجواز ، لأن هؤلاء لم يتعين السبي فيهم ، بخلاف من سبي ، فإنه يصير رقيقا بنفس السبي وإن حكم عليهم بالفداء جاز لأن الإمام مخير في الأسرى بين القتل والفداء ، والاسترقاق والمن .

فكذلك الحاكم وإن حكم عليهم بإعطاء الجزية لم يلزم حكمه ، لأن عقد الذمة عقد معاوضة ، فلا يثبت إلا بالتراضي ، ولذلك لا يملك الإمام إجبار الأسير على إعطاء الجزية .

وإن حكم بالقتل والسبي جاز للإمام المن على بعضهم ، { لأن ثابت بن قيس سأل في الزبير بن باطا ، من قريظة ، وماله ، رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه } . ويخالف مال الغنيمة إذا حازه المسلمون ، لأن ملكهم استقر عليه وإن أسلموا قبل الحكم عليهم ، عصموا دماءهم وأموالهم ، لأنهم أسلموا وهم أحرار ، وأموالهم لهم ، فلم يجز [ ص: 253 ] استرقاقه ، بخلاف الأسير ، فإن الأسير قد ثبتت اليد عليه ، كما تثبت على الذرية ، فلذلك جاز استرقاقه

. وإن أسلموا بعد الحكم عليهم ، نظرت ، فإن كان قد حكم عليهم بالقتل ، سقط ، لأن من أسلم فقد عصم دمه ، ولم يجز استرقاقهم ، لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب : ويحتمل جواز استرقاقهم ، كما لو أسلموا بعد الأسر ، ويكون المال على ما حكم فيه ، وإن حكم بأن المال للمسلمين ، كان غنيمة ، لأنهم أخذوه بالقهر والحصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية