صفحة جزء
( 8152 ) فصل : والأسماء تنقسم إلى ستة أقسام ; أحدها ، ما له مسمى واحد ، كالرجل والمرأة والإنسان والحيوان ، فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف . الثاني ، ما له موضوع شرعي ، وموضوع لغوي ، كالوضوء والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع ونحو ذلك ، فهذا تنصرف اليمين عند الإطلاق إلى موضوعه الشرعي دون اللغوي ، لا نعلم فيه أيضا خلافا ، غير ما ذكرناه فيما تقدم .

الثالث ، ما له موضوع حقيقي ومجاز لم يشتهر أكثر من الحقيقة ، كالأسد والبحر ، فيمين الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز ; لأن كلام الشارع إذا ورد في مثل هذا ، حمل على حقيقته دون مجازه ، كذلك اليمين .

الرابع ، الأسماء العرفية ، وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه ، فهذا على ضروب ; أحدها ، ما يغلب على الحقيقة ، بحيث لا يعلمها أكثر الناس ، كالراوية ، هي في العرف اسم المزادة ، وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات ، والظعينة في العرف المرأة ، وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها ، والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة ، وفي الحقيقة العذرة فناء الدار ، ولذلك قال علي ، عليه السلام ، لقوم : ما لكم لا تنظفون عذراتكم ؟ يريد أفنيتكم . والغائط المكان المطمئن .

فهذا وأشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة ; لأنه الذي يريده بيمينه ، ويفهم من كلامه ، فأشبه الحقيقة في غيره .

الضرب الثاني ، أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم ، وهذا يتنوع أنواعا ; فمنه ما يشتهر التخصيص فيه ، كلفظ الدابة ، هو في الحقيقة اسم لكل ما يدب ، قال الله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } . وقال : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } .

وفي العرف اسم للبغال والخيل والحمير ، ولذلك لو وصى إنسان لرجل بدابة من دوابه ، كان له أحد هذه الثلاث ، فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق ، كالذي قبله . ويحتمل أن تتناول يمينه الحقيقة ; بناء على قولهم فيما سنذكره ، وعلى قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم : إن يمينه تتناول السمك . ومن هذا النوع إذا حلف لا يشم الريحان ، فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي ، وهو في الحقيقة اسم [ ص: 58 ] لكل نبت أو زهر طيب الريح ، مثل الورد والبنفسج والنرجس .

وقال القاضي : لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي . وهو مذهب الشافعي ; لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه . وقال أبو الخطاب : يحنث بشم ما يسمى في الحقيقة ريحانا ; لأن الاسم يتناوله حقيقة . ولا يحنث بشم الفاكهة ، وجها واحدا ; لأنها لا تسمى ريحانا حقيقة ولا عرفا . ومن هذا لو حلف لا يشم وردا ، ولا بنفسجا ، فشم دهن البنفسج ، وماء الورد ، فقال القاضي : لا يحنث .

وهو مذهب الشافعي ; لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا . وقال أبو الخطاب : يحنث ; لأن الشم إنما هو للرائحة دون الذات ، ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما . وقال أبو حنيفة : يحنث بشم دهن البنفسج ; لأنه يسمى بنفسجا ، ولا يحنث بشم ماء الورد ; لأنه لا يسمى وردا .

والأول أقرب إلى الصحة ، إن شاء الله تعالى . وإن شم الورد والبنفسج اليابس ، حنث . وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يحنث ، كما لو حلف لا يأكل رطبا ، فأكل تمرا . ولنا ، أن حقيقته باقية ، فحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما ، فأكل قديدا ، وفارق ما ذكروه ، فإن التمر ليس رطبا . وإن حلف لا يأكل شواء ، حنث بأكل اللحم المشوي ، دون غيره من البيض المشوي وما عداه . وبه قال أصحاب الرأي .

وقال أبو يوسف ، وابن المنذر : يحنث بأكل كل ما يشوى ; لأنه شواء . ولنا ، أن هذا لا يسمى شواء ، فلم يحنث بأكله ، كالمطبوخ ، وقولهم : هو شواء في الحقيقة . قلنا : لكنه لا يسمى شواء في العرف ، والظاهر أنه إنما يريد المسمى شواء في عرفهم . وإن حلف لا يدخل بيتا ، فدخل مسجدا ، أو حماما ، فإنه يحنث . نص عليه أحمد . ويحتمل أن لا يحنث .

وهو قول أكثر الفقهاء ; لأنه لا يسمى بيتا في العرف ، فأشبه ما قبله من الأنواع . والأول المذهب ، لأنهما بيتان حقيقة ، وقد سمى الله المساجد بيوتا ، فقال : { في بيوت أذن الله أن ترفع } . وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } . وروي في حديث : { المسجد بيت كل تقي } . وروي في خبر : " بئس البيت الحمام " . وإذا كان بيتا في الحقيقة ، ويسميه الشارع بيتا ، حنث بدخوله ، كبيت الإنسان ، ولا نسلم أنه من الأنواع ، فإن هذا يسمى بيتا في العرف ، بخلاف الذي قبله .

وإن دخل بيتا من شعر ، أو غيره ، حنث ، سواء كان الحالف حضريا أو بدويا ، فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا ، قال الله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم } .

فأما ما لا يسمى في العرف بيتا ، كالخيمة ، فالأولى أن لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا ; لأن يمينه لا تنصرف إليه . وإن دخل دهليز دار أو صفتها ، لم يحنث . وهو قول بعض أصحاب الشافعي . وقال أبو حنيفة يحنث ; لأن جميع الدار بيت .

[ ص: 59 ] ولنا ، أنه لا يسمى بيتا ، ولهذا يقال : ما دخلت البيت ، إنما وقفت في الصحن . وإن حلف لا يركب ، فركب سفينة ، فقال أبو الخطاب : يحنث ; لأنه ركوب ، قال الله - تعالى : { اركبوا فيها بسم الله مجراها } . وقال : { فإذا ركبوا في الفلك } . الضرب الثالث ، أن يكون الاسم المحلوف عليه عاما ، لكن أضاف إليه فعلا لم تجر العادة به ، إلا في بعضه ، أو اشتهر في البعض دون البعض ، مثل أن يحلف أن لا يأكل رأسا ، فإنه يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والصيود والطيور والحيتان والجراد . ذكره القاضي .

وقال أبو الخطاب : لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للأكل منفردا . وقال الشافعي : لا يحنث إلا بأكل رءوس بهيمة الأنعام دون غيرها ، إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود ، وتميز رءوسها ، فيحنث بأكلها . وقال أبو حنيفة : لا يحنث بأكل رءوس الإبل ; لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة . وقال صاحباه : لا يحنث إلا بأكل رءوس الغنم ; لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها ، فيمينه تنصرف إليها .

ووجه الأول ، أن هذه رءوس - حقيقة وعرفا - مأكولة ، فحنث بأكلها ، كما لو حلف لا يأكل لحما ، فأكل من لحم النعام والزرافة ، وما يندر وجوده وبيعه ، ومن ذلك إذا حلف لا يأكل بيضا ، حنث بأكل بيض كل حيوان ، سواء كثر وجوده ، كبيض الدجاج ، أو قل وجوده كبيض النعام . وبهذا قال الشافعي .

وقال أصحاب الرأي : لا يحنث بأكل بيض النعام . وقال أبو ثور : لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج ، وما يباع في السوق . ولنا ، أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا ، وهو مأكول ، فيحنث بأكله ، كبيض الدجاج ، ولأنه لو حلف لا يشرب ماء ، فشرب ماء البحر ، أو ماء نجسا ، أو لا يأكل خبزا ، فأكل الأرز أو الذرة ، في مكان لا يعتاد أكله فيه ، حنث .

فأما إن أكل بيض السمك أو الجراد ، فقال القاضي : يحنث ; لأنه بيض حيوان ، أشبه بيض النعام . وقال أبو الخطاب : لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة . وهذا قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وأكثر العلماء . وهو الصحيح ; لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض ، ولا يذكر إلا مضافا إلى بائضه ، ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير بيض الحيوان ، ولا بأكل شيء يسمى رأسا غير رءوس الحيوان ; لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية