صفحة جزء
( 8368 ) فصل : والشعر كالكلام ; حسنه كحسنه ، وقبيحه كقبيحه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن من الشعر لحكما } ، { وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه ، فيهجو من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين } . [ ص: 176 ] { وأنشده كعب بن زهير قصيدة :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

في المسجد . وقال له عمه العباس : يا رسول الله ، إني أريد أن أمتدحك . فقال : قل ، لا يفضض الله فاك
} .

{ فأنشده :

من قبلها طبت في الظلال     وفي مستودع حيث يخصف الورق

} عمرو بن الشريد : { أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أمعك من شعر أمية ؟ . قلت : نعم . فأنشدته بيتا ، فقال : هيه . فأنشدته بيتا ، فقال : هيه . حتى أنشدته مائة قافية } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين : { أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب } وقد اختلف في هذا ، فقيل : ليس بشعر ، وإنما هو كلام موزون . وقيل : بل هو شعر ، ولكنه بيت واحد قصير ، فهو كالنثر .

ويروى أن أبا الدرداء قيل له : ما من أهل بيت في الأنصار ، إلا وقد قال الشعر . قال : وأنا قد قلت :

يريد المرء أن يعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا     يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا

وليس في إباحة الشعر خلاف ، وقد قاله الصحابة والعلماء ، والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية ، والاستشهاد به في التفسير ، وتعرف معاني كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويستدل به أيضا على النسب ، والتاريخ ، وأيام العرب . ويقال : الشعر ديوان العرب .

فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه ، خير له من أن يمتلئ شعرا } . رواه أبو داود ، وأبو عبيد . وقال : معنى يريه : يأكل جوفه ، يقال : وراه يريه ، قال الشاعر

: وراهن ربي مثل ما قد ورينني     وأحمي على أكبادهن المكاويا

قلنا : أما الآية ، فالمراد بها من أسرف وكذب ; بدليل وصفه لهم بقوله : { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون } .

ثم استثنى المؤمنين ، فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } . ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين ، والكذب ، وقذف المحصنات ، وهجاء الأبرياء ، سيما من كان في ابتداء الإسلام ، ممن يهجو المسلمين ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويعيب الإسلام ، ويمدح الكفار ، فوقع الذم على الأغلب ، واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة ، فالآية دليل على إباحته ، ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة .

وأما الخبر ; فقال أبو عبيد : معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه . وقيل : المراد به ما [ ص: 177 ] كان هجاء وفحشا ، فما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين ، والقدح في أعراضهم ، أو التشبب بامرأة بعينها ، والإفراط في وصفها ، فذكر أصحابنا أنه محرم . وهذا إن أريد به أنه محرم على قائله ، فهو صحيح ، وأما على راويه فلا يصح ; فإن المغازي تروى فيها قصائد الكفار الذين هجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك أحد .

وقد روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما ، إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية } . وكذلك يروى شعر قيس بن الخطيم ، في التشبيب بعمرة بنت رواحة ، أخت عبد الله بن رواحة ، وأم النعمان بن بشير . وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير ، وفيها التشبيب بسعاد . ولم يزل الناس يروون أمثال هذا ، ولا ينكر .

وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الخطيم ، فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه ، فقال النعمان : دعوه ، فإنه لم يقل بأسا ، إنما قال :

وعمرة من سروات النساء     تنفح بالمسك أردانها

وكان عمران بن طلحة في مجلس ، فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه ، فسكتوه من أجله ، فقال : دعوه ، فإن قائل هذا الشعر ، كان زوجها . فأما الشاعر ، فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب ، أو يقذف مسلما أو مسلمة ، فإن شهادته ترد ، وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره . وقد قيل : أعظم الناس ذنبا ، رجل يهاجي رجلا ، فيهجو القبيلة بأسرها .

وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض ، أظنه ابن أبي ليلى ، فخاف أن يرد شهادته . فقال :

إن الناس غطوني تغطيت عنهم     وإن بحثوا عني ففيهم مباحث

فقال القاضي : ومن يبحثك يا أبا دلامة . وغرم المال من عنده ، ولم يظهر أنه رد شهادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية