صفحة جزء
( 8376 ) فصل : فإن شهد على رجل بحق ، فقذفه المشهود عليه ، لم ترد شهادته بذلك ; لأننا لو أبطلنا شهادته بهذا لتمكن كل مشهود عليه من إبطال شهادة الشاهد بأن يقذفه ، ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة ، وقبل الحكم ، فإن رد الشهادة فيه لا يفضي إلى ذلك ، بل إلى عكسه ، ولأن طريان الفسق يورث تهمة في حال أداء الشهادة ; لأن العادة إسراره ، فظهوره بعد أداء الشهادة ، يدل على أنه كان يسره حالة أدائها ، وها هنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه .

وأما المحاكمة في الأموال ، فليست بعداوة تمنع الشهادة في غير ما حاكم فيه . [ ص: 183 ] وأما قوله : ولا جار إلى نفسه . فإن الجار إلى نفسه هو الذي ينتفع بشهادته ، ويجر إليه بها نفعا ; كشهادة الغرماء للمفلس بدين أو عين ، وشهادتهم للميت بدين أو مال ، فإنه لو ثبت للمفلس أو الميت دين أو مال ، تعلقت حقوقهم به ، ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال ، فإن شهادتهم تقبل ; لأن حقهم لا يتعلق بماله ، وإنما يتعلق بذمته .

فإن قيل : إذا كان معسرا سقطت عنه المطالبة ، فإذا شهدا له بمال ، ملكا مطالبته ، فجروا إلى أنفسهم نفعا . قلنا : لم تثبت المطالبة بشهادتهم ، إنما تثبت بيساره وإقراره ; لدعواه الحق الذي شهدوا به . ولا تقبلشهادة الوارث للموروث بالجرح قبل الاندمال ; لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه ، فتجب الدية لهم بشهادتهم . ولا شهادة الشفيع ببيع شقص له فيه الشفعة . ولا شهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة ، ولا لمكاتبه .

قال القاضي : ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره . وقال : نص عليه أحمد . فإن قيل : فلم قبلتم شهادة الوارث لموروثه ، مع أنه إذا مات ورثه ، فقد جر إلى نفسه بشهادته نفعا ؟ قلنا : لا حق له في ماله حين الشهادة ، وإنما يحتمل أن يتجدد له حق ، وهذا لا يمنع قبول الشهادة ، كما لو شهد لامرأة يحتمل أن يتزوجها ، أو لغريم له بمال يحتمل أن يوفيه منه ، أو يفلس ، فيتعلق حقه به ، وإنما المانع ما يحصل للشاهد به نفع حال الشهادة .

فإن قيل : فقد منعتم قبول شهادته لموروثه بالجرح قبل الاندمال ; لجواز أن يتجدد له حق ، وإن لم يكن حق في الحال ، فإن قلتم : قد انعقد سبب حقه . قلنا : يبطل بالشاهد لموروثه المريض بحق ، فإن شهادته تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه ; بدليل أن عطيته له لا تنفذ ، وعطيته لغيره تقف على الخروج من الثلث . قلنا : إنما منعنا الشهادة لموروثه بالجرح ; لأنه ربما أفضى إلى الموت ، فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء ، فيكون شاهدا لنفسه ، موجبا له بها حقا ابتداء ، بخلاف الشاهد للمريض أو المجروح بمال ، فإنه إنما يجب للمشهود له ، ثم يجوز أن ينتقل ، ويجوز أن لا ينتقل ، فلم يمنع الشهادة له ، كالشهادة لغريمه .

فإن قيل : فقد أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال ، كما أجزتم شهادته له بماله ؟ . قلنا : إنما أجزناها لأن الدية لا تجب للشاهد ابتداء ، إنما تجب للقتيل ، أو لورثته ، ثم يستوفي الغريم منها ، فأشبهت الشهادة له بالمال . وأما الدافع عن نفسه ، فمثل أن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود ، أو تشهد عاقلة القاتل خطأ بجرح الشهود الذين شهدوا به ، لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم . فإن كان الشاهدان بالجرح فقيرين ، احتمل قبول شهادتهما ; لأنهما لا يحملان شيئا من الدية ، واحتمل أن لا تقبل ; لأنه يخاف أن يوسرا قبل الحول فيحملا .

وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده ، فإنه لا يأمن أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول ، فيحمل . ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق ، أو الإبراء منه . ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر بإسقاط [ ص: 184 ] شفعته ; لأنه يوفر الحق على نفسه . ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعضهم بإسقاط دينه ، أو استيفائه . ولا بعض من أوصى له بمال على آخر ، بما يبطل وصيته ، إذا كانت وصيته تحصل بها مزاحمته ; إما لضيق الثلث عنهما ، أو لكون الوصيتين بمعين .

فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه ; لأن الشاهد به متهم ; لما يحصل بشهادته من نفع نفسه ، ودفع الضرر عنها ، فيكون شاهدا لنفسه . وقد قال الزهري : مضت السنة في الإسلام ، أن لا تجوز شهادة خصم ، ولا ظنين . والظنين : المتهم . وروى طلحة بن عبد الله بن عوف ، قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا شهادة لخصم ، ولا ظنين } . وممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح ، والنخعي ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . ولا نعلم فيه مخالفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية