صفحة جزء
( 8851 ) مسألة : قال : ( وأحكام أمهات الأولاد ، أحكام الإماء ، في جميع أمورهن ، إلا أنهن لا يبعن ) وجملة ذلك أن الأمة إذا حملت من سيدها ، وولدت منه ، ثبت لها حكم الاستيلاد ، وحكمها حكم الإماء ; في حل وطئها لسيدها ، واستخدامها ، وملك كسبها ، وتزويجها ، وإجارتها ، وعتقها ، وتكليفها ، وحدها ، وعورتها . وهذا قول أكثر أهل العلم . وحكي عن مالك ، أنه لا يملك إجارتها وتزويجها ; لأنه لا يملك بيعها ، فلا يملك تزويجها وإجارتها ، كالحرة .

ولنا ، أنها مملوكة ينتفع بها ، فيملك سيدها تزويجها ، وإجارتها ، كالمدبرة ، لأنها مملوكة تعتق بموت سيدها ، فأشبهت المدبرة ، وإنما منع بيعها ; لأنها استحقت أن تعتق بموته ، وبيعها يمنع ذلك ، بخلاف التزويج والإجارة . ويبطل دليلهم بالموقوفة والمدبرة عند من منع بيعها . إذا ثبت هذا ، فإنها تخالف الأمة القن ، في أنها تعتق بموت سيدها من رأس المال ، ولا يجوز بيعها ، ولا التصرف فيها بما ينقل الملك ، من الهبة والوقف ، ولا ما يراد للبيع ، وهو الرهن ، ولا تورث ; لأنها تعتق بموت السيد ، ويزول الملك عنها . روي هذا عن عمر ، وعثمان ، وعائشة ، وعامة الفقهاء .

وروي عن علي ، وابن عباس ، وابن الزبير ، إباحة بيعهن . وإليه ذهب داود . قال سعيد : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء عن ابن عباس ، في أم الولد قال : بعها كما تبيع شاتك ، أو بعيرك . قال : وحدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن عبيدة ، قال خطب علي الناس ، فقال : شاورني عمر في أمهات الأولاد ، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن ، فقضى به عمر حياته ، وعثمان حياته ، فلما وليت ، رأيت أن أرقهن . قال عبيدة : فرأي عمر وعلي في الجماعة ، أحب إلينا من رأي علي وحده . وقد روى صالح بن أحمد ، قال : قلت لأبي : إلى أي شيء تذهب في بيع أمهات الأولاد ؟ قال : أكرهه ، وقد باع علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال ، في رواية إسحاق بن منصور : لا يعجبني بيعهن .

قال أبو الخطاب : فظاهر هذا أنه يصح بيعهن مع الكراهة . فجعل هذا رواية ثانية عن أحمد رضي الله عنه . والصحيح أن هذا ليس برواية مخالفة لقوله : إنهن لا يبعن . لأن السلف ، رحمة الله عليهم ، كانوا يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا ، ومتى كان التحريم والمنع مصرحا به في سائر الروايات عنه ، وجب حمل هذا اللفظ المحتمل ، على المصرح به ، ولا يجعل ذلك اختلافا . ولمن أجاز بيعهن أن يحتج بما روى جابر ، قال : { بعنا أمهات الأولاد ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وأبي بكر ، فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا ، فانتهينا . رواه أبو داود . وما كان جائزا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره ، ولأن نسخ الأحكام إنما يجوز في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن النص إنما ينسخ بنص مثله .

وأما قول الصحابي ، فلا ينسخ ، ولا ينسخ به ; فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتركون أقوالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتركونها بأقوالهم ، وإنما تحمل مخالفة عمر لهذا النص ، على أنه لم يبلغه ، ولو بلغه لم يعده إلى غيره ، ولأنها مملوكة ، ولم يعتقها سيدها ، ولا شيئا [ ص: 414 ] منها ، ولا قرابة بينه وبينها ، فلم تعتق ، كما لو ولدت من أبيه في نكاح أو غيره ، ولأن الأصل الرق ، ولم يرد بزواله نص ولا إجماع ، ولا ما في معنى ذلك ، فوجب البقاء عليه ، ولأن ولادتها لو كانت موجبة لعتقها ، لثبت العتق بها حين وجودها ، كسائر أسبابه . وروي عن ابن عباس ، رواية أخرى ، أنها تجعل في سهم ولدها ; لتعتق عليه .

وقال سعيد : حدثنا سفيان ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، قال : مات رجل منا ، وترك أم ولد ، فأراد الوليد بن عقبة أن يبيعها في دينه ، فأتينا عبد الله بن مسعود ، فذكرنا ذلك له ، فقال : إن كان ولا بد ، فاجعلوها في نصيب أولادها . ولنا ، ما روى عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أيما أمة ولدت من سيدها ، فهي حرة عن دبر منه } . وقال ابن عباس : ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { أعتقها ولدها } . رواهما ابن ماجه . وذكر الشريف أبو جعفر ، في ( مسائله ) ، عن ابن عمر ، { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد ، ولا يبعن ولا يرهن ، ولا يرثن ، ويستمتع بها سيدها ما بدا له ، فإن مات ، فهي حرة . } وهذا فيما أظن عن عمر ، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، بدليل قول علي كرم الله وجهه : كان رأيي ورأي عمر ، أن لا تباع أمهات الأولاد . وقوله : فقضى به عمر حياته وعثمان حياته . وقول عبيدة : رأي علي كرم الله وجهه وعمر في الجماعة ، أحب إلينا من رأيه وحده .

وروى عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر رضي الله عنه : ما من رجل كان يقر بأنه يطأ جاريته ، ثم يموت ، إلا أعتقها ولدها إذا ولدت ، وإن كان سقطا . فإن قيل : فكيف تصح دعوى الإجماع ، مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم ؟ قلنا : قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة ، فقد روى عبيدة ، قال : بعث إلي علي كرم الله وجهه وإلى شريح ، أن اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أبغض الاختلاف . وابن عباس قال : ولد أم الولد بمنزلتها . وهو الراوي لحديث عتقهن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر ، فيدل على موافقته لهم . ثم قد ثبت الإجماع باتفاقهم قبل المخالفة ، واتفاقهم معصوم عن الخطأ ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته ، ولو جاز ذلك في بعض العصر ، لجاز في جميعه ، ورأي الموافق في زمن الاتفاق ، خير من رأيه في الخلاف بعده ، فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم ، كما هو حجة على غيره .

فإن قيل : لو كان الاتفاق في بعض العصر إجماعا ، حرمت مخالفته ، فكيف خالفه هؤلاء الأئمة ، الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام ؟ قلنا : الإجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون ، وهذا من المظنون ، فيمكن وقوع المخالفة منهم له ، مع كونه حجة ، كما وقع منهم مخالفة النصوص الظنية ، ولا تخرج بمخالفتهم عن كونها حجة ، كذا هاهنا . فأما قول جابر : { بعنا أمهات الأولاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } وأبي بكر فليس فيه تصريح بأنه كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علم أبي بكر فيكون ذلك واقعا من فعلهم على انفرادهم ، فلا يكون فيه حجة ، ويتعين حمل الأمر على هذا ; لأنه لو كان هذا واقعا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وأقرا عليه ، لم تجز مخالفته ، ولم يجمع الصحابة [ ص: 415 ] بعدهما على مخالفتهما ، ولو فعلوا ذلك ، لم يخل من منكر ينكر عليهم ، ويقول : كيف يخالفون فعل رسول الله ، وفعل صاحبه ؟ وكيف يتركون سنتهما ، ويحرمون ما أحلا ؟ من هذا ولأنه لو كان ذلك واقعا بعلمهما ، لاحتج به علي حين رأى بيعهن ، واحتج به كل من وافقه على بيعهن ، ولم يجر شيء من هذا ، فوجب أن يحمل الأمر على ما حملناه عليه ، فلا يكون فيه إذا حجة ، ويحتمل أنهم باعوا أمهات الأولاد في النكاح ، لا في الملك .

التالي السابق


الخدمات العلمية