صفحة جزء
( 957 ) مسألة : قال : ( وكذلك إن صلى في المقبرة أو الحش أو الحمام أو في أعطان الإبل ; أعاد ) اختلفت الرواية عن أحمد ، رحمه الله ، في الصلاة في هذه المواضع ، فروي أن الصلاة لا تصح فيها بحال . وممن روي عنه أنه كره الصلاة في المقبرة علي ، وابن عباس ، وابن عمر وعطاء ، والنخعي ، وابن المنذر . وممن رأى أن يصلى في مرابض الغنم ولا يصلى في مبارك الإبل ابن عمر وجابر بن سمرة ، والحسن ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو ثور . وعن أحمد رواية أخرى ، أن الصلاة في هذه صحيحة ما لم تكن نجسة . وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ; لقوله عليه السلام { : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } وفي لفظ { فحيثما أدركتك الصلاة فصل ، فإنه مسجد } . وفي لفظ { : أينما أدركتك الصلاة فصل ، فإنه مسجد } . متفق عليها

، ولأنه موضع طاهر ، فصحت الصلاة فيه ، كالصحراء . ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم { : الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة } رواه أبو داود .

وهذا خاص مقدم على عموم ما رووه . وعن جابر بن سمرة { ، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنصلي في في مرابض الغنم ؟ قال : نعم . قال : أنصلي في مبارك الإبل ؟ قال : لا } . رواه مسلم وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين } . رواه أبو داود . وعن أسيد بن حضير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في مبارك الإبل } رواه الإمام أحمد في " مسنده " . والنهي يقتضي التحريم ، وهذا خاص يقدم على عموم ما رووه ، وروي هذا الحديث عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن مغفل ، رواهن الأثرم .

فأما الحش فإن الحكم يثبت فيه بالتنبيه ; لأنه إذا منع من الصلاة في هذه المواضع لكونها مظان النجاسة ، فالحش معد للنجاسة ومقصود لها ، فهو أولى بالمنع فيه . وقال بعض أصحابنا : إن كان المصلي عالما بالنهي في هذه المواضع ، لم تصح صلاته فيها ; لأنه عاص بصلاته فيها ، والمعصية لا تكون قربة ولا طاعة ، وإن لم يكن عالما فهل تصح صلاته ؟ على روايتين . إحداهما ، لا تصح لأنه صلى فيما لا تصح الصلاة فيه مع العلم ، فلا تصح مع الجهل ، كالصلاة في محل نجس .

والثانية : تصح لأنه معذور . [ ص: 404 ]

( 958 ) فصل : وذكر بعض أصحابنا مع هذه المواضع المزبلة ، والمجزرة ، ومحجة الطريق ، وظهر بيت الله الحرام ، والموضع المغصوب لما روى ابن عمر ، أن رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم قال : { سبع مواطن لا تجوز فيها الصلاة ; ظهر بيت الله ، والمقبرة ، والمزبلة ، والمجزرة ، والحمام ، وعطن الإبل ، ومحجة الطريق } رواه ابن ماجه . وعن ابن عمر قال { : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبع مواطن . وذكرها ، وقال : وقارعة الطريق ، ومعاطن الإبل ، وفوق الكعبة } . وقال : الحكم في هذه المواضع السبعة كالحكم في الأربعة سواء .

ولأن المواضع مظنة النجاسات ، فعلق الحكم عليها دون حقيقتها ، كما يثبت حكم نقض الطهارة بالنوم ، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين . ( 959 ) فصل : قال القاضي : المنع من هذه المواضع تعبد ، لا لعلة معقولة ، فعلى هذا يتناول النهي كل ما وقع عليه الاسم فلا فرق في المقبرة بين القديمة والحديثة ، وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب ; لتناول الاسم لها ، فإن كان في الموضع قبر أو قبران ، لم يمنع من الصلاة فيها . لأنها لا يتناولها اسم المقبرة . وإن نقلت القبور منها ، جازت الصلاة فيها ; لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين ، فنبشت . متفق عليه . ولا فرق في الحمام بين مكان الغسل وصب الماء ، وبين بيت المسلخ - الذي ينزع فيه الثياب - والأتون وكل ما يغلق عليه باب الحمام ; لتناول الاسم له . وأما المعاطن ، فقال أحمد : هي التي تقيم فيها الإبل وتأوي إليها .

وقيل : هي المواضع التي تناخ فيها إذا وردت . والأول أجود ; لأنه جعله مقابلة مراح الغنم . والحش : المكان الذي يتخذ للغائط والبول فيمنع من الصلاة فيما هو داخل بابه . ولا أعلم في منع الصلاة فيه إلا أنه قد منع من ذكر الله تعالى فيه والكلام ، فمنع الصلاة فيه أولى ، ولأنه إذا منع الصلاة في هذه المواضع لكونها مظان للنجاسات ، فهذا أولى ; فإنه بني لها ويحتمل أن المنع في هذه المواضع معلل بأنها مظان للنجاسات ، فإن المقبرة تنبش ويظهر التراب الذي فيه صديد الموتى ودماؤهم ولحومهم ، ومعاطن الإبل يبال فيها ، فإن البعير البارك كالجدار يمكن أن يستتر به ويبول ، كما روي عن ابن عمر ، أنه أناخ بعيره مستقبل القبلة ، ثم جلس يبول إليه .

ولا يتحقق هذا في حيوان سواها ; لأنه في حال ربضه لا يستر ، وفي حال قيامه لا يثبت ولا يستر . والحمام موضع الأوساخ والبول ، فنهي عن الصلاة فيها لذلك . وتعلق الحكم بها وإن كانت طاهرة لأن المظنة يتعلق الحكم بها وإن خفيت الحكمة فيها ، ومتى أمكن تعليل الحكم تعين تعليله ، وكان أولى من قهر التعبد ومرارة التحكم ، يدل على صحة هذا تعدية الحكم إلى الحش المسكوت عنه ، بالتنبيه من وجود معنى المنطوق فيه ، وإلا لم يكن ذلك تنبيها ، فعلى هذا يمكن قصر الحكم على ما هو مظنة منها ، فلا يثبت حكم المنع في موضع المسلخ من الحمام ، ولا في وسطه ، لعدم المظنة فيه ، وكذلك ما أشبهه والله أعلم . ( 960 ) فصل : وزاد أصحابنا المجزرة ، والمزبلة ، ومحجة الطريق ، وظهر الكعبة ; لأنها في خبر عمر وابنه . وقالوا : لا يجوز فيها الصلاة .

ولم يذكرها الخرقي فيحتمل أنه جوز الصلاة فيها ، وهو قول أكثر أهل العلم ; لعموم قوله عليه الصلاة والسلام { : جعلت لي الأرض مسجدا } وهو صحيح متفق عليه . واستثنى منه المقبرة ، والحمام ، ومعاطن الإبل ، بأحاديث صحيحة خاصة ، ففيما عدا ذلك يبقى على العموم . وحديث عمر وابنه يرويهما العمري [ ص: 405 ] ، وزيد بن جبير ; وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما ، فلا يترك الحديث الصحيح بحديثهما . وهذا أصح ، وأكثر أصحابنا ، فيما علمت ، عملوا بخبر عمر وابنه في المنع من الصلاة في المواضع السبعة .

ومعنى محجة الطريق : الجادة المسلوكة التي تسلكها السابلة . وقارعة الطريق : يعني التي تقرعها الأقدام ، فاعلة بمعنى مفعولة ، مثل الأسواق والمشارع والجادة للسفر . ولا بأس بالصلاة فيما علا منها يمنة ويسرة ولم يكثر قرع الأقدام فيه . وكذلك لا بأس بالصلاة في الطريق التي يقل سالكوها ، كطرق الأبيات اليسيرة .

والمجزرة : الموضع الذي يذبح القصابون فيه البهائم ، وشبههم معروفا بذلك معدا . والمزبلة : الموضع الذي يجمع فيه الزبل . ولا فرق في هذه المواضع بين ما كان منها طاهرا ونجسا ، ولا بين كون الطريق فيها سالكا أو لم يكن ; ولا في المعاطن بين أن يكون فيها إبل في الوقت أو لم يكن .

وأما المواضع التي تبيت فيها الإبل في مسيرها ، أو تناخ فيها لعلفها أو وردها ، فلا يمنع الصلاة فيها . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن موضع فيه أبعار الإبل يصلى فيه ؟ فرخص فيه ، ثم قال : إذا لم يكن من معاطن الإبل ، التي نهي عن الصلاة فيها ، التي تأوي إليها الإبل . ( 961 ) فصل : ويكره أن يصلي إلى هذه المواضع فإن فعل صحت صلاته نص عليه أحمد في رواية أبي طالب وقد سئل عن الصلاة إلى المقبرة والحمام والحش ؟ قال : لا ينبغي أن يكون في القبلة قبر ، ولا حش ولا حمام ، فإن كان يجزئه . وقال أبو بكر : يتوجه في الإعادة قولان ; أحدهما : يعيد ; لموضع النهي ، وبه أقول .

والثاني : يصح ; لأنه لم يصل في شيء من المواضع المنهي عنها . وقال أبو عبد الله بن حامد : إن صلى إلى المقبرة والحش فحكمه حكم المصلي فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل ; لما روى أبو مرثد الغنوي ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا إليها } . متفق عليه . وقال الأثرم : ذكر أحمد حديث أبي مرثد ، ثم قال : إسناده جيد . وقال أنس : رآني عمر ، وأنا أصلي إلى قبر ، فجعل يشير إلي : القبر ، القبر . قال القاضي : وفي هذا تنبيه على نظائره من المواضع التي نهي عن الصلاة فيها .

والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة ; لأن قوله عليه الصلاة والسلام { : جعلت الأرض مسجدا } يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته ، وقياس ذلك على الصلاة إلى المقبرة لا يصح لأن النهي إن كان تعبدا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه ، وإن كان لمعنى مختص بها ، وهو اتخاذ القبور مسجدا ، والتشبه بمن يعظمها ويصلي إليها ، فلا يتعداها الحكم ; لعدم وجود المعنى في غيرها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { : إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك } .

وقال { : لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . يحذر ما صنعوا . متفق عليهما . فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور للنهي عنها ، ويصح إلى غيرها لبقائها في عموم الإباحة وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه ، والله أعلم . ( 962 ) فصل : وإن صلى على سطح الحش أو الحمام أو عطن الإبل أو غيرها ، فذكر القاضي أن حكمه حكم المصلي فيها ; لأن الهواء تابع للقرار ، فيثبت فيه حكمه ، ولذلك لو حلف لا يدخل دارا ، فدخل سطحها ، حنث ، ولو خرج المعتكف إلى سطح المسجد كان له ذلك ; لأن حكمه حكم المسجد .

والصحيح ، إن شاء الله ، قصر النهي على ما تناوله ، وأنه لا يعدى إلى غيره ; لأن الحكم إن كان تعبديا فالقياس فيه ممتنع ، وإن علل فإنما [ ص: 406 ] تعلل بكونه للنجاسة ، ولا يتخيل هذا في سطحها . فأما إن بنى على طريق ساباطا أو أخرج عليه خروجا ، فعلى قول القاضي : حكمه حكم الطريق ، لما ذكره فيما تقدم .

وعلى قولنا ، إن كان الساباط مباحا له ، مثل أن يكون في درب غير نافذ بإذن أهله ، أو مستحقا له ، أو حدث الطريق بعده ، فلا بأس بالصلاة عليه ، وإن كان على طريق نافذ ، فليس ذلك له ، فيكون المصلي فيه كالمصلي في الموضع المغصوب . على ما سنذكره إن شاء الله تعالى . وإن كان الساباط على نهر تجري فيه السفن ، فهو كالساباط على الطريق ، في القولين جميعا .

وهذا مما يدل على ما ذكرناه ; لأنه لو كانت العلة كونه تابعا للقرار ، لجازت الصلاة هاهنا ، لكون القرار غير ممنوع من الصلاة فيه ، بدليل ما لو صلى عليه في سفينة ، أو لو جمد ماؤه فصلى عليه ، صح ، ولأنه لو كانت العلة ما ذكره لصحت الصلاة على ما حاذى ميمنة الطريق وميسرتها ، وما لا تقرعه الأقدام منها ، وهذا فيما إذا كان السطح جاريا على موضع النهي ، فإن كان المسجد سابقا ، وجعل تحته طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي . أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله ، لم تمتنع الصلاة فيه ، بغير خلاف ، لأنه لم يتبع ما حدث بعده ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية