صفحة جزء
( 1121 ) مسألة : قال : ( ومن صلى خلف من يعلن ببدعة ، أو يسكر ، أعاد ) . الإعلان الإظهار ، وهو ضد الإسرار . فظاهر هذا أن من ائتم بمن يظهر بدعته ، ويتكلم بها ، ويدعو إليها ، أو يناظر عليها ، فعليه الإعادة . ومن لم يظهر بدعته ، فلا إعادة على المؤتم به ، وإن كان معتقدا لها . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : الرافضة الذين يتكلمون بما تعرف ؟ فقال : نعم ، آمره أن يعيد . قيل لأبي عبد الله : وهكذا أهل البدع كلهم ؟ قال : لا ، إن منهم من يسكت ، ومنهم من يقف ولا يتكلم . وقال : لا تصل خلف أحد من أهل الأهواء ، إذا كان داعية إلى هواه .

وقال : لا تصل خلف المرجئ إذا كان داعية . وتخصيصه الداعية ، ومن يتكلم بالإعادة ، دون من يقف ولا يتكلم ، يدل على ما قلناه . وقال القاضي : المعلن بالبدعة من يعتقدها بدليل ، وغير المعلن من يعتقدها تقليدا . ولنا ، أن حقيقة الإعلان هو الإظهار ، وهو ضد الإخفاء والإسرار ، قال الله تعالى : { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } وقال تعالى مخبرا عن إبراهيم : { ربنا إنك تعلم ما نحفي وما نعلن } ولأن المظهر لبدعته لا عذر للمصلي خلفه - لظهور حاله - ، والمخفي لها من يصلي خلفه معذور ، وهذا له أثر في صحة الصلاة ، ولهذا لم تجب الإعادة خلف المحدث والنجس إذا لم يعلم حالهما ; لخفاء ذلك ومنهما ووجبت على المصلي خلف الكافر والأمي ، لظهور حالهما غالبا .

وقد روي عن أحمد ، أنه لا يصلى خلف مبتدع بحال . قال ، في رواية أبي الحارث : لا يصلي خلف مرجئ ولا رافضي ، ولا فاسق ، إلا أن يخافهم فيصلي ، ثم يعيد . وقال أبو داود ، قال أحمد : متى ما صليت خلف من يقول : القرآن مخلوق فأعد . قلت : وتعرفه . قال : نعم . وعن مالك ، أنه لا يصلى خلف أهل البدع . فحصل من هذا أن من صلى خلف مبتدع معلن ببدعته ، فعليه الإعادة .

ومن لم يعلنها ففي الإعادة خلفه روايتان . وأباح الحسن ، وأبو جعفر ، والشافعي الصلاة خلف أهل البدع ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { صلوا خلف من قال : لا إله إلا الله . } رواه الدارقطني . ولأنه رجل صلاته صحيحة ، فصح الائتمام به كغيره . وقال نافع : كان ابن عمر يصلي مع الخشبية والخوارج زمن ابن الزبير ، وهم يقتتلون . فقيل له : أتصلي مع هؤلاء ، ومع هؤلاء ، وبعضهم يقتل بعضا ؟ فقال : من قال : حي على الصلاة . أجبته ، ومن قال : حي على الفلاح . أجبته ، ومن قال : حي على قتل أخيك المسلم ، وأخذ ماله . قلت : لا . رواه سعيد . وقال ابن المنذر ، وبعض الشافعية : من نكفره ببدعته كالذي يكذب الله أو رسوله ببدعته ، لا يصلى خلفه ، ومن لا نكفره تصح الصلاة خلفه . [ ص: 9 ] ولنا : ما روى جابر ، قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يقول : { لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا فاجر مؤمنا ، إلا أن يقهره بسلطان ، أو يخاف سوطه أو سيفه } . رواه ابن ماجه ، وهذا أخص من حديثهم ، فتعين تقديمه ، وحديثهم نقول به في الجمع والأعياد ، وتعاد ، وهو مطلق ، فالعمل به في موضع يحصل الوفاء بدلالتهم ، وقياسهم منقوض بالخنثى والأمي . ويروى عن حبيب بن عمر الأنصاري ، عن أبيه ، قال : سألت واثلة بن الأسقع ، قلت : أصلي خلف القدري ؟ قال : لا تصل خلفه . ثم قال : أما أنا لو صليت خلفه لأعدت صلاتي . رواه الأثرم .

وأما قول الخرقي : " أو يسكر " . فإنه يعني من يشرب ما يسكره من أي شراب كان ، فإنه لا يصلى خلفه لفسقه . وإنما خصه بالذكر ، فيما يرى من سائر الفساق ، لنص أحمد عليه . قال أبو داود : سألت أحمد وقيل له : إذا كان الإمام يسكر ؟ قال : لا تصل خلفه ألبتة . وسأله رجل ، قال : صليت خلف رجل ، ثم علمت أنه يسكر ، أعيد ؟ قال : نعم ، أعد . قال : أيتهما صلاتي ؟ قال : التي صليت وحدك . وسأله رجل . قال : رأيت رجلا سكران ، أصلي خلفه ؟ قال : لا . قال : فأصلي وحدي ؟ قال أين أنت ؟ في البادية ؟ المساجد كثيرة . قال : أنا في حانوتي . قال : تخطاه إلى غيره من المساجد .

فأما من يشرب من النبيذ المختلف فيه ما لا يسكره ، معتقدا حله ، فلا بأس بالصلاة خلفه . نص عليه أحمد . فقال : يصلى خلف من يشرب المسكر على التأويل ، نحن نروي عنهم الحديث ، ولا نصلي خلف من يسكر . وكلام الخرقي بمفهومه يدل على ذلك ، لتخصيصه من سكر بالإعادة خلفه . وفي معنى شارب ما يسكر كل فاسق ، فلا يصلى خلفه . نص عليه أحمد . فقال : لا تصل خلف فاجر ولا فاسق .

وقال أبو داود سمعت أحمد ، رحمه الله ، سئل عن إمام ، قال : أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهما . قال : أسأل الله العافية ، من يصلي خلف هذا ؟ وروي عنه أنه قال : لا تصلوا خلف من لا يؤدي الزكاة ، وقال لا تصل خلف من يشارط ، ولا بأس أن يدفعوا إليه من غير شرط . وهذه النصوص تدل على أنه لا يصلى خلف فاسق . وعنه رواية أخرى ، أن الصلاة جائزة ، ذكرها أصحابنا . وهذا مذهب الشافعي ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { صلوا خلف من قال لا إله إلا الله } . وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ، والحسين والحسن ، وغيرهما من الصحابة كانوا يصلون مع مروان . والذين كانوا في ولاية زياد وابنه كانوا يصلون معهما . وصلوا وراء الوليد بن عقبة ، وقد شرب الخمر وصلى الصبح أربعا ، وقال : أزيدكم .

فصار هذا إجماعا ، وروي عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ؟ قال : قلت . فما تأمرني ؟ قال : صل الصلاة لوقتها ، فإن أدركتها معهم فصل ، فإنها لك نافلة } . رواه مسلم . وفي لفظ : { فإن صليت لوقتها كانت نافلة ، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك } . وفي لفظ : { فإن أدركت الصلاة معهم فصل ، ولا تقل : إني قد صليت ، فلا أصلي } . وفي لفظ : " فإنها زيادة خير " . وهذا فعل يقتضي فسقهم ، وقد أمره بالصلاة معهم ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { صلاة الجماعة تفضل [ ص: 10 ] صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة } عام ، فيتناول محل النزاع ، ولأنه رجل تصح صلاته لنفسه ، فصح الائتمام به كالعدل .

ووجه الأولى قوله عليه السلام : { لا يؤمن فاجر مؤمنا ، إلا أن يقهره بسلطانه أو سيفه } . ولأن الإمامة تتضمن حمل القراءة ، ولا يؤمن تركه لها ، ولا يؤمن ترك بعض شرائطها كالطهارة ، وليس ثم أمارة ولا غلبة ظن يؤمنان ذلك . والحديث أجبنا عنه ، وفعل الصحابة محمول على أنهم خافوا الضرر بترك الصلاة معهم ، فقد روينا عن عطاء ، وسعيد بن جبير ، أنهما كانا في المسجد ، والحجاج يخطب ، فصليا بالإيماء ، وإنما فعلا ذلك لخوفهما على أنفسهما إن صليا على وجه يعلم بهما . ورويناه عن قسامة بن زهير . قال : لما كان من شأن فلان ما كان ، قال له أبو بكر : تنح عن مصلانا ، فإنا لا نصلي خلفك . وحديث أبي ذر : يدل على صحتها نافلة ، والنزاع في الفرض . ( 1122 ) فصل : فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر .

وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة ، وكذلك العلماء الذين في عصره . وقد روينا أن رجلا جاء محمد بن النضر ، فقال له : إن لي جيرانا من أهل الأهواء ، لا يشهدون الجمعة . قال حسبك ، ما تقول في من رد على أبي بكر وعمر ؟ قال : رجل سوء . قال : فإن رد على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : يكفر . قال : فإن رد على العلي الأعلى ؟ ثم غشي عليه ، ثم أفاق ، فقال : ردوا عليه والذي لا إله إلا هو فإنه قال : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } وهو يعلم أن بني العباس سيلونها . ولأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة ; وتليها الأئمة دون غيرهم ، فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية . إذا ثبت هذا فإنها تعاد خلف من يعاد خلفه غيرها .

قال أحمد : أما الجمعة فينبغي شهودها ، فإن كان الذي يصلي منهم أعاد . وروي عنه أنه قال : من أعادها فهو مبتدع . وهذا يدل بعمومه على أنها لا تعاد خلف فاسق ولا مبتدع ; لأنها صلاة أمر بها ، فلم تجب إعادتها كسائر الصلوات . ( 1123 ) فصل : فإن كان المباشر لها عدلا ، والمولي له غير مرضي الحال لبدعته أو فسقه ، لم يعدها . نص عليه . وقيل له : إنهم يقولون إذا كان الذي وضعه يقول بقولهم فسدت الصلاة . قال : لست أقول بهذا . ولأن صلاته إنما ترتبط بصلاة إمامه ، فلا يضر وجود معنى في غيره ، كالحدث أو كونه أميا . وعنه : تعاد .

والصحيح الأول . ( 1124 ) فصل : وإن لم يعلم فسق إمامه ، ولا بدعته ، حتى صلى معه ، فإنه يعيد . نص عليه . وقال ابن عقيل : لا إعادة عليه ; لأن ذلك مما يخفى ، فأشبه المحدث والنجس . والصحيح أن هذا ينظر فيه ، فإن كان ممن يخفي بدعته وفسوقه ، صحت الصلاة خلفه ، لما ذكرنا في أول المسألة ، وإن كان ممن يظهر ذلك ، وجبت الإعادة خلفه ، على الرواية التي تقول بوجوب إعادتها خلف المبتدع ; ولأنه معنى يمنع الائتمام ، فاستوى فيه العلم وعدمه ، كما لو كان أميا ، والحدث والنجاسة يشترط خفاؤهما على الإمام والمأموم معا ، ولا يخفى على الفاسق فسق نفسه ، ولأن [ ص: 11 ] الإعادة إنما تجب خلف من يعلن ببدعته ، وليس ذلك في مظنة الخفاء ، بخلاف الحدث والنجاسة .

( 1125 ) فصل : وإن لم يعلم حاله ولم يظهر منه ما يمنع الائتمام به ، فصلاة المأموم صحيحة . نص عليه أحمد ; لأن الأصل في المسلمين السلامة . ولو صلى خلف من يشك في إسلامه ، فصلاته صحيحة ; لأن الظاهر أنه لا يتقدم للإمامة إلا مسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية