صفحة جزء
( 1249 ) مسألة ; قال : ( وللمسافر أن يتم ويقصر ، كما له أن يصوم ويفطر ) . المشهور عن أحمد ، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين ، وإن شاء أتم . وروي عنه أنه توقف ، وقال : أنا أحب العافية من هذه المسألة . وممن روي عنه الإتمام في السفر : عثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الأوزاعي ، والشافعي ، وهو المشهور عن مالك .

وقال حماد بن أبي سليمان : ليس له الإتمام في السفر . وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة . وأوجب حماد الإعادة على من أتم . وقال أصحاب الرأي : إن كان جلس بعد الركعتين قدر التشهد ، فصلاته صحيحة ، وإلا لم تصح . وقال عمر بن عبد العزيز : الصلاة في السفر ركعتان حتم ، لا يصلح غيرهما .

وروي عن ابن عباس أنه قال : من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين . واحتجوا بأن صلاة السفر ركعتان بدليل قول عمر ، وعائشة ، وابن عباس ، على ما ذكرناه . وروي عن صفوان بن محرز ، أنه سأل ابن عمر عن الصلاة في السفر ، فقال : ركعتان ، فمن خالف السنة كفر ، ولأن الركعتين الأخريين يجوز تركهما إلى غير بدل ، فلم تجز زيادتهما على الركعتين المفروضتين ، كما لو زادهما على صلاة الفجر . ولنا ، قول الله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه ، كسائر الرخص . وقال يعلى بن أمية : { قلت لعمر بن الخطاب : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ، فقال عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته } . رواه مسلم .

وهذا يدل على أنه رخصة ، وليس بعزيمة ، وأنها مقصورة . وروى الأسود ، عن عائشة ، أنها قالت : { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان ، فأفطر وصمت ، وقصر وأتممت ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت . فقال : أحسنت } . رواه أبو داود الطيالسي ، في " مسنده " . وهذا صريح في الحكم . ولأنه لو ائتم بمقيم صلى أربعا ، وصحت الصلاة ، والصلاة لا تزيد بالائتمام .

قال ابن عبد البر : وفي إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين ، فأدرك منها ركعة أن يلزمه أربع ، دليل واضح على أن القصر رخصة ، [ ص: 55 ] إذ لو كان فرضه ركعتين لم يلزمه أربع بحال .

وروى بإسناده ، عن عطاء ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يتم في السفر ويقصر } . وعن أنس ، قال : كنا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - نسافر ، فيتم بعضنا ، ويقصر بعضنا ، ويصوم بعضنا ، ويفطر بعضنا ، فلا يعيب أحد على أحد ، ولأن ذلك إجماع الصحابة ، رحمة الله عليهم ، بدليل أن فيهم من كان يتم الصلاة ، ولم ينكر الباقون عليه ، بدليل حديث أنس ، وكانت عائشة تتم الصلاة . رواه مسلم والبخاري

وأتمها عثمان ، وابن مسعود ، وسعد . وقال عطاء : كانت عائشة وسعد يوفيان الصلاة في السفر ، ويصومان ، وروى الأثرم بإسناده ، عن سعد ، أنه أقام بعمان شهرين ، فكان يصلي ركعتين ، ويصلي أربعا . وعن المسور بن مخرمة ، قال : أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها . وسأل ابن عباس رجل ، فقال : كنت أتم الصلاة في السفر . فلم يأمره بالإعادة .

فأما قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين . فإنما أرادت أن ابتداء فرضها كان ركعتين ، ثم أتمت بعد الهجرة ، فصارت أربعا . وقد صرحت بذلك حين شرحت ، ولذلك كانت تتم الصلاة ، ولو اعتقدت ما أراد هؤلاء لم تتم .

وقول ابن عباس مثل قولها ، ولا يبعد أن يكون أخذه منها ، فإنه لم يكن في زمن فرض الصلاة في سن من يعقل الأحكام ، ويعرف حقائقها ، ولعله لم يكن موجودا ، أو كان فرضها في السنة التي ولد فيها ، فإنها فرضت بمكة ليلة الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين ، وكان ابن عباس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث عشرة سنة ، وفي حديثه ما اتفق على تركه ، وهو قوله : والخوف ركعة . والظاهر أنه أراد ما أرادت عائشة من ابتداء الفرض ، فلذلك لم يأمر من أتم بالإعادة .

وقول عمر : تمام غير قصر . أراد بها تمام في فضلها غير ناقصة الفضيلة . ولم يرد أنها غير مقصورة الركعات ; لأنه خلاف ما دلت عليه الآية والإجماع ، إذ الخلاف إنما هو في القصر والإتمام ، وقد ثبت بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يعلى بن أمية أنها مقصورة ، ويشبه هذا ما رواه مجاهد ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : إني وصاحب لي كنا في سفر ، وكان صاحبي يقصر وأنا أتم . فقال له ابن عباس : أنت كنت تقصر وصاحبك يتم ; رواه الأثرم ،

أراد أن فعله أفضل من فعلك . ثم لو ثبت أن أصل الفرض ركعتان لم يمتنع جواز الزيادة عليها ، كما لو ائتم بمقيم ، ويخالف زيادة ركعتين على صلاة الفجر ، فإنه لا يجوز زيادتهما بحال . ( 1250 ) مسألة ; قال : ( والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبد الله ، رحمه الله ) . أما القصر فهو أفضل من الإتمام في قول جمهور العلماء ، وقد كره جماعة منهم الإتمام . قال أحمد : ما يعجبني .

وقال ابن عباس للذي قال له : كنت أتم الصلاة وصاحبي يقصر : أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم . وشدد ابن عمر على من أتم الصلاة ، روي أن رجلا سأله عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان ، فمن خالف السنة كفر . وقال بشر بن حرب : سألت ابن عمر : كيف صلاة السفر يا أبا عبد الرحمن ؟ قال إما أنتم تتبعون سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم أخبرتكم ، وإما لا تتبعون سنة نبيكم فلا أخبركم ؟ قلنا : فخير ما اتبع سنة نبينا يا أبا عبد الرحمن . قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها . } رواه سعيد .

قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن بشر . ولما بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى أربعا استرجع ، وقال : { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 56 ] ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ثم تفرقت بكم الطرق ، ووددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان } . وهذا قول مالك .

ولا أعلم فيه مخالفا من الأئمة إلا الشافعي في أحد قوليه ، قال : الإتمام أفضل ; لأنه أكثر عملا وعددا ، وهو الأصل ، فكان أفضل ، كغسل الرجلين . ولنا ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على القصر } ، بدليل ما ذكرنا من الأخبار ، وقال ابن عمر : { صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى } . متفق عليه .

وعن ابن مسعود ، وعمران بن حصين مثل ذلك . وروى سعيد بن المسيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خياركم من قصر في السفر وأفطر } رواه الأثرم . مع ما ذكرنا من أقوال الصحابة فيما مضى ، ولأنه إذا قصر أدى الفرض بالإجماع ، وإذ أتم اختلف فيه ، وأما الغسل فلا نسلم له أنه أفضل من المسح ، والفطر نذكره في بابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية