صفحة جزء
( 1252 ) مسألة ; قال : ( وإذا دخل وقت الظهر على مسافر ، وهو يريد أن يرتحل ، صلاها وارتحل ، فإذا دخل وقت العصر صلاها ، وكذلك المغرب والعشاء الآخرة ، وإن كان سائرا فأحب أن يؤخر الأولى إلى وقت الثانية فجائز ) . جملة ذلك أن الجمع بين الصلاتين في السفر ، في وقت إحداهما ، جائز في قول أكثر أهل العلم .

وممن روي عنه ذلك سعيد بن زيد ، وسعد ، وأسامة ، ومعاذ بن جبل ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وابن عمر . وبه قال : طاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر .

وروي عن سليمان بن أخي زريق بن حكيم ، قال : مر بنا نائلة بن ربيعة ، وأبو الزناد ، ومحمد بن المنكدر ، وصفوان بن سليم ، وأشياخ من أهل المدينة ، فأتيناهم في منزلهم ، وقد أخذوا في الرحيل ، فصلوا الظهر والعصر جميعا حين زالت الشمس ، ثم أتينا المسجد ، فإذا زريق بن حكيم يصلي للناس الظهر . وقال الحسن ، وابن سيرين ، وأصحاب الرأي : لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة ، وليلة مزدلفة بها ، وهذا رواية ابن القاسم عن مالك واختياره ، واحتجوا بأن المواقيت تثبت بالتواتر ، فلا يجوز تركها بخبر واحد .

ولنا ، ما روى نافع عن ابن عمر ، أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ، ويقول : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما . } وعن أنس ، قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما ، وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل ، صلى الظهر ثم ركب } . متفق عليهما .

ولمسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم { إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر ، فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق . } وروى الجمع معاذ بن جبل ، وابن عباس ، وسنذكر أحاديثهما [ ص: 57 ] فيما بعد ، وقولهم : لا نترك الأخبار المتواترة . قلنا : لا نتركها ، وإنما نخصصها ، وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع ، وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بالإجماع ، فتخصيص السنة بالسنة أولى ، وهذا ظاهر جدا .

فإن قيل : معنى الجمع في الأخبار أن يصلي الأولى في آخر وقتها ، والأخرى في أول وقتها . قلنا : هذا فاسد لوجهين : أحدهما ، أنه قد جاء الخبر صريحا في أنه كان يجمعهما في وقت إحداهما ، على ما سنذكره ، ولقول أنس : أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق . فيبطل التأويل .

الثاني ، أن الجمع رخصة ، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا ، وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها ; لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين ، بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها ، ومن تدبر هذا وجده كما وصفنا ، ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب ، والعشاء والصبح ، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك ، والعمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه ( أولى ) من هذا ( التكلف ) الذي يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمله عليه . إذا ثبت هذا فمفهوم قول الخرقي أن الجمع إنما يجوز إذا كان سائرا في وقت الأولى ، فيؤخر إلى وقت الثانية ، ثم يجمع بينهما ، ورواه الأثرم عن أحمد ، وروي نحو هذا القول عن سعد ، وابن عمر ، وعكرمة ، أخذا بالخبرين اللذين ذكرناهما . وروي عن أحمد جواز تقديم الصلاة الثانية إلى الأولى ، وهذا هو الصحيح وعليه أكثر الأصحاب . قال القاضي : الأول هو الفضيلة والاستحباب ، وإن أحب أن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى منهما ، جاز ، نازلا كان ، أو سائرا ، أو مقيما في بلد إقامة لا تمنع القصر . وهذا قول عطاء ، وجمهور علماء المدينة ، والشافعي ، وإسحاق ، وابن المنذر ; لما روى معاذ بن جبل ، قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ، فيصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس ، صلى الظهر والعصر جميعا ، ثم سار ، وإذا ارتحل قبل المغرب ، أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب ، عجل العشاء ، فصلاها مع المغرب . } رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : هذا حديث حسن . وروى ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر مثل ذلك . وقيل : إنه متفق عليه . وهذا صريح في محل النزاع . وروى مالك في " الموطأ " ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، أن معاذا أخبره ، أنهم { خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء . قال : فأخر الصلاة يوما ، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل ، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا . } قال ابن عبد البر : هذا حديث صحيح ، ثابت الإسناد . وقال أهل السير : إن غزوة ( تبوك ) كانت في رجب ، سنة تسع ، وفي هذا الحديث أوضح الدلائل ، وأقوى الحجج ، في الرد على من قال : لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جد به السير ; لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ، ماكث في خبائه ، يخرج فيصلي الصلاتين جميعا ، ثم ينصرف إلى خبائه . وروى هذا الحديث مسلم في " صحيحه " قال : فكان يصلي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا . والأخذ بهذا الحديث ( متعين ) ; لثبوته وكونه صريحا في الحكم ، ولا معارض له ، ولأن الجمع رخصة من رخص السفر ، فلم يختص بحالة السير ، كالقصر والمسح ، ولكن الأفضل التأخير ، لأنه أخذ بالاحتياط ، وخروج من خلاف القائلين [ ص: 58 ] بالجمع ، وعمل بالأحاديث كلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية