مشكلات في طريق الحياة الإسلامية

محمد الغزالي

صفحة جزء
السلف.. والخلف..

وعدت بذاكرتي إلى أيام الدراسة في الجامع الأزهر، من خمسين سنة تقريبا، كنا نحضر علم التوحيد، ونستمع إلى الأستاذ وهو يعرض نماذج من الآيات المتشابهة، لقد شحنت عقولنا بأشياء كثيرة عن قوله تعالى: [ ص: 128 ]

( الرحمن على العرش استوى ) (طه: 5).

( يد الله فوق أيديهم ) (الفتح: 10).

وبعد كلام طويل قال الشيخ رحمه الله: ومذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم!

قلت له:

لماذا؟

قال:

مذهب السلف أسلم، لأنه أبعد عن الخطأ في تقرير المعنى، وأرجى للثواب لأنه يبتعد عن التأويل، ويقبل التفويض كما أمرنا، أما مذهب الخلف فهو أقدر على دحض الشبهات، ورد الوساوس، وإلزام الخصوم.

وسلمنا - نحن الطلاب - بما تعلمنا، ومضت السنون واللجاج لا ينتهي بين الفريقين!

وتدبرت الأمر بيني وبين نفسي فرأيت أن كلا من السلف والخلف لجأ إلى التأويل في بعض الآيات، فقوله تعالى:

( وهو معكم أين ما كنتم ) (الحديد: 4).

ليست معية ذات وإنما هـي معية علم! وقوله سبحانه:

( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (ق: 16).

أو قوله: ( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) (الواقعة: 85).

المقصود الملائكة لا الذات العليا، هـكذا يقول السلف..

أما تأويلات الخلف فكثيرة مثل قوله جل شأنه: ( الرحمن على العرش استوى ) (طه: 5). [ ص: 129 ]

ليس الاستواء استقرارا ومماسة، وإنما هـو استيلاء وقهر.. إلخ.

وقد ملت إلى رأي السلف، وظهر ذلك في كتابي ((عقيدة المسلم)) غير أني بعد مزيد من الاستقصاء والبحث رأيت أن التفويض مطلوب ما لم يشعر بتجسيم، وأن التأويل مطلوب ما لم ينته بتعطيل، وبناء على ذلك رفضت مسلك المعتزلة لأنهم - تأثرا بالفلسفة الإغريقية - أعطوا صورة مشوهة عن الألوهية، ورفضت مسلك الغلاة من بعض الحنابلة لأنهم كادوا ينتهون إلى التجسيم..

وعدت إلى كلام الأئمة والعلماء على امتداد العصر فرأيت بعضه يصدق بعضا أو يكاد، ورأيت الشقة قريبة بين المروي عن السلف والخلف، وأنه لا مكان لمعارك دامية بين هـؤلاء وأولئك.

يقول أبو حامد الغزالي - وهو من أئمة الخلف - فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: ( الرحمن على العرش استوى ) (طه: 5)، وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ( ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا ) قلنا: الكلام على الظواهر الواردة في هـذا الباب طويل، ولكن نذكر منهجا في هـذين النصين يرشد إلى ما عداه، وهو أنا نقول: الناس في هـذا فريقان: عوام، وعلماء!

والذي نراه لائقا بعوام الخلق ألا يخاض بهم في هـذه التأويلات، بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبيه، أو يدل على الحدوث، ونحقق عندهم أنه - سبحانه - موجود.

( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) (الشورى: 11).

وإذا سألوا عن معاني هـذه الآيات زجروا عنها، وقيل: ليس هـذا بعشكم فادرجوا.. فلكل علم رجال، ويجابون بما أجاب به مالك بن أنس : [ ص: 130 ] الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات، ولا الإحاطة باللغات، ولا تحيط بتوسيعات العرب في الاستعارات!!

وأما العلماء فاللائق بهم تعرف ذلك وتفهمه! ولست أقول: إن ذلك فرض عين - إذ لم يرد به تكليف - بل التكليف: تنزيهه سبحانه وتعالى عن كل تشبيه بغيره عن ((الاقتصاد في الاعتقاد..)).

وقال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، عند الكلام على حديث الجارية - الذي جعله خطيب أحد المساجد موضوعا له وأساء كل الإساءة - قال:

هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان:

الأول:

الإيمان به من غير خوض في معناه، مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وتنزيهه عن سمات المخلوقات.

الثاني:

تأويله بما يليق، فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحان الجارية، هـل هـي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هـو الله وحده؟ وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، أم هـي من عبدة الأوثان التي بين أيديهم، فلما قالت: في السماء! علم أنها موحدة، وليست عابدة أوثان.

وقال - نقلا عن القاضي عياض ـ: لا خلاف بين المسلمين قاطبة، فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم، أن الظواهر الواردة بذكر الله في السماء مثل: [ ص: 131 ]

( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) (الملك: 16).

ونحوها ليست على ظاهرها، بل متأولة عند جميعهم.

إن الإغراق في التأويل - كما هـو مذهب المعتزلة - أذهب الخشية من القلوب، كما أوقع أصحابه في نقائض عقلية مستغربة، إذ كيف يقال: عليم بلا علم، وقادر بلا قدرة؟

وهذا التفكير تقليد رديء لأرسطو الذي جرد إلهه من كل وصف، وعمل حتى أصبح إلها يتأمل ذاته وحسب!

وقد كان المعتزلة أجرأ على تأويل النصوص منهم على نقد الفلاسفة، وذلك مسلك معيب.

التالي السابق


الخدمات العلمية