أدب الاختلاف في الإسلام

الدكتور / طه جابر فياض العلواني

صفحة جزء
الفصل الخامس

في معالم الاختلاف بين الأئمة وآدابه

لقد اختلف الأئمة في كثير من الأمور الاجتهادية، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم؛ وهم جميعا على الهدى ما دام الاختلاف لم ينجم عن هـوى أو شهوة أورغبة في الشقاق، فقد كان الواحد منهم يبذل جهده وما في وسعه ولا هـدف له إلا إصابة الحق وإرضاء الله جل شأنه، ولذلك فإن أهل العلم في سائر الأعصار كانوا يقبلون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ما داموا مؤهلين، فيصوبون المصيب، ويستغفرون للمخطئ، ويحسنون الظن بالجميع، ويسلمون بقضاء القضاة على أي مذهب كانوا، ويعمل القضاة بخلاف مذاهبهم عند [ ص: 117 ] الحاجة من غير إحساس بالحرج أو انطواء على قول بعينه، فالكل يستقي من ذلك النبع وإن اختلفت الدلائل، وكثيرا ما يصدون اختياراتهم بنحو قولهم: (هذا أحوط ) أو (أحسن ) أو (هذا ما ينبغي ) أو (نكره هـذا ) أو (لا يعجبني ) فلا تضييق ولا اتهام، ولا حجر على رأي له من النص مستند، بل يسر وسهولة وانفتاح على الناس لتيسير أمورهم.

لقد كان في الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من يسر، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت فيها، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء، والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في مس المرأة نقضا للوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو ما مسته النار مسا مباشرا، ومنهم من لا يرى في ذلك بأسا.

إن هـذا كله لم يمنع من أن يصلي بعضهم خلف بعض، كما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سرا ولا جهرا، وصلى الرشيد إماما وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة مع أن الحجامة عنده تنقض الوضوء.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هـل يصلى خلفه؟ [ ص: 118 ] فقال : (كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب ) >[1]

. وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبا من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت - والقنوت عنده سنة مؤكدة - فقيل له في ذلك، فقال: (أخالفه وأنا في حضرته. ) وقال أيضا: (ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق )

>[2] .

وكان مالك رحمه الله أثبت الأئمة في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسنادا، وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة رضوان الله عليهم أجمعين، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، وقد حدث وأفتى رضي الله عنه ، وألف كتابه (الموطأ) الذي توخى فيه إيراد القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وأجاد، وقد اعتبر (الموطأ ) ثمرة جهد الإمام مالك لمدة أربعين عاما، وهو أول كتاب في الحديث والفقه طهر في الإسلام، وقد وافقه على ما فيه سبعون عالما من معاصريه من علماء الحجاز، ومع ذلك فحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه، وتوزيعها على الأمصار، وحمل الناس على الفقه الذي فيه حسما للخلاف كان الإمام مالك أول من رفض ذلك، فقد روي عنه أنه قال: (يا أمير المؤمنين، لا تفعل هـذا، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، [ ص: 119 ] وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم ... فقال الخليفة: وفقك الله يا أبا عبد الله )

>[3] .

فأي رجل هـذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره.

التالي السابق


الخدمات العلمية