صفحة جزء
[5] المشكلـة اللـغويـة

اللغة هـي وعاء الفكر والحضارة، فبدونها لا يمكن التعبير عن المعاني، وتعتبر إحدى المقومات الرئيسة التي تكون شخصية الأمة، وتعطيها ملامحها وهويتها، وترسي دعائم التفاهم بين أبنائها وتحقق وحدتها؛ وكلما ارتقت لغة الأمة نمت واتسعت مفرداتها وكثر الاشتقاق والتوليد فيها كلما دلت على حيوية الأمة وتحضرها، ومن هـنا حظيت لغة الأمم الراقية باهتمام بالغ، فلها مجامعها العريقة، ومعاجمها المتطورة النامية، ودورياتها المستمرة التي توضح ما استجد فيها وما طرأ عليها؛ فثمة ألفاظ تموت بعد قرن أو أكثر من حياة اللغة، وثمة ألفاظ تولد، وعلى المدى البعيد تتسع الهوة بين اللغة وأصولها القديمة.

ومن المعلوم أن اللغة الإنجليزية المعاصرة تختلف كثيرا عن لغة " شكسبير " ، كما أن لغة " شكسبير " تختلف عن أصولها اللاتينية اختلافا عظيما...

واللغة العربية احتلت مكانا عظيما في العصر الجاهلي؛ حيث تميز العرب باهتمامهم الكبير بالشعر والخطابة، وعقدوا لهما الأسواق الأدبية، فكان للكلمة قيمة كبيرة، لكن العرب لم يكونوا يدونون ذلك.

ونزل القرآن الكريم بلغة قريش العربية، فأعطى العربية فرصة عظمى لتتقارب لغاتها وتتبلور في لغة القرآن.. لغة الشمال.. كما أعطاها [ ص: 72 ] فرصة أعظم للحفاظ على أصولها حيث يحتوي القرآن الكريم على 30% من الجذور التي يحتويها كتاب (الصحاح ) للجوهري >[1]

سواء أكانت حية أم ميتة، وترتفع النسبة بالطبع إذا أخذت بالنسبة للجذور المستعملة فقط من صحاح الجوهري؛ وبالتالي فقد أعطى الحياة الدائمة لهذه الجذور في حين فقدت العديد من الجذور الأخرى حياتها مع تعاقب القرون..

وارتفع الإسلام بلغة العرب إلى لغة الإدارة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلوم بعد أن كانت لغة الأدب والثقافة فحسب.. وذلك عندما استعملت الدولة الإسلامية اللغة العربية في عصر الراشدين والأمويين والعباسيين..

ودخلت أمم أعجمية في الإسلام واتسعت دائرة انتشار العربية؛ تبعا لانتشار الإسلام الذي يحتاج التفقه فيه وفهمه إلى معرفة اللغة العربية.. وزادت خصوبة العربية واتسع نموها.. وتعكس المعاجم اللغوية التي ألفت في فترات متعاقبة مقدار النمو اللغوي عبر العصور.

فقد حوى كتاب (الصحاح) للجوهري (ت 393هـ) (5618 ) جذرا. [ ص: 73 ] في حين حوى (لسان العرب ) لابن منظور (ت711 هـ ) (9273 ) جذرا، أما (تاج العروس ) للزبيدي (ت1205 هـ ) فإنه حوى (11978 ) جذرا أي بزيادة (25% ) على ما في (لسان العرب ) و (50% ) على ما في (الصحاح ) للجوهري ، أي أن (تاج العروس ) تفرد بربع اللغة تقريبا >[2]

، ثم لم تجر محاولة شاملة للتأليف المعجمي واحتواء المفردات الجديدة حتى أواسط القرن العشرين عندما ظهر المعجم الوسيط، وتحركت المجامع العلمية اللغوية العربية لتدارك الأخطار المحدقة بلغتنا نتيجة التحديات المعاصرة.. فما يستجد من ألفاظ الحضارة في العالم قدر هـائل يصل في المتوسط إلى خمسين كلمة جديدة تولد في كل يوم، وتتطلب اجتهادا من أصحاب اللغة يسيغها ويطوعها للغة العربية >[3]

وإلا انعزلت اللغة العربية عن عالم الحضارة والفكر، رغم مرونتها العظيمة وقدرتها الهائلة على الاشتقاق والتوليد منها، وما ذلك إلا لعجز أبنائها عن مواكبة الحياة.. [ ص: 74 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية