صفحة جزء
التربيـة بالقـدوة

إن القدوة الحسنة هـي أمثل الطرق لتربية الأجيال الإسلامية وهي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطريقة الصحابة والتابعين والأتباع ومن بعدهم من جهابذة العلماء، وإن العناية بتربية الطلبة وتوجيههم، وعدم إبقائهم بمعزل عن الأساتذة هـي أكثر الطرق فعالية في التأثير على سلوكهم وتقوية صلتهم بالله وبتعاليم دينه.

إن الأساتذة في الجامعات الإسلامية كما لا يخفى هـم دعاة أولا وليسوا مجرد موظفين، ولذلك لا يمكن أن يقتصر علمهم على الواجبات الرسمية المناطة بهم، إذ هـم لا يستطيعون ذلك، كما أن الجامعة لا تستطيع تحقيق أهدافها التعليمية والتربوية والعلمية إلا عن طريق هـيئة التدريس، وأن وحدة الهدف والرغبة الصادقة في خدمة الإسلام هـي الدافع لزيادة جهود الأساتذة في توجيه الطلبة علميا وتربويا، ويخيل إلي أن الجامعات الإسلامية لو لم تكن قائمة فإن أي عالم سيفكر في إنشاء مدرسة أو كلية لتدريس العلوم الإسلامية، إذ لا حياة للعالم إلا وسط طلبة العلم، يعلمهم السلوك، ويربيهم على تعاليم الإسلام، ويثقف [ ص: 109 ] عقولهم بالقرآن والحديث وفقههما، ويجعل الموازين الإسلامية مقياسا لهم في كل أعمالهم وأقوالهم.

فالثقافة ليست حشدا للمعلومات، بل هـي تفاعل بين الإنسان والعقيدة والفكر، يظهر في السلوك... فقد يحفظ الإنسان معلومات كثيرة ولكن سلوكه الاجتماعي غير مقبول، فنظرته للآخرين فيها استعلاء واحتقار، وتقويمه للمواقف مبني على " الأنانية " وحب الذات، وتذوقه " للجمال " ضعيف يدل على بلادة المشاعر وضعف الإحساس، وكلامه خال من المعاني الرقيقة والمشاعر الطيبة، ولا تظهر فيه آثار المعلومات التي يكنزها؟ فمثل هـذا ليس مثقفا بل هـو جهاز " كمبيوتر " من نوع بسيط ورخيص لقدرته المحدودة على الاستيعاب والحفظ.

لقد فطنت أم عربية مسلمة هـي السيدة أم المحدث المشهور " سفيان الثوري " إلى هـذه الحقيقة، وبالتالي فقد أوضحت لابنها سفيان أن يربط بين العلم والسلوك، وإلا فلا نفع للعلم دون العمل.

قالـت:

" يا بني خذ هـذه عشرة دراهم وتعلم عشرة أحاديث، فإذا وجدتها تغير في جلستك ومشيتك وكلامك مع الناس، فأقبل عليه وأنا أعينك بمغزلي هـذا وإلا فاتركه، فإني أخشى أن يكون وبالا عليك يوم القيامة " .

فإذن الثقافة ينبغي أن تغير في الجلسة والمشية والكلام.. يعني " السلوك " وإلا فهي تزيد مسئولية صاحبها في الآخرة، وقد تكون وبالا [ ص: 110 ] عليه في الدنيا أيضا، إذ لن يجد مردودا اجتماعيا وأدبيا يعادل " ثقافته العالية " حسب تصوره - والتي ينبغي في رأيه - أن تؤدي إلى تصدره !!!

وللأسف فإن ما فطنت إليه المرأة المسلمة في مطلع القرن الثاني الهجري لا يزال خافيا على كثير من المتعلمين في هـذا العصر.

وقد أستفاد سفيان من نصيحة أمه، فواصل طريقه في طلب العلم حتى صار علما في عصره، وروى عنه عشرون ألفا من الرواة، قال رحمه الله يحكي صورة طلبه العلم في صغره، حيث فطن المسلمون إلى أهمية طلب العلم في الصغر، وتواصوا بذلك، وأحضروا الصغار في حلقات العلم وتعهدهم بالرعاية، قال سفيان :

" لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، كالزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة فإذا أتيت، قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير: ثم ضحك " (سير أعلام النبلاء 8/404 ) . [ ص: 111 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية