المخدرات من القلق إلى الاستعباد

الدكتور / محمد محمود الهواري

صفحة جزء
( 6 ) المنومات والمهدئات HYPNOTIQUES-TRANQUILISANTS الحاجة إلى المنومات قديمة جدا؛ إلا أن الإدمان عليها لم يظهر إلا مع تطور الصناعة الدوائية حينما لاحت في الأسواق أعداد وفيرة ومتنوعة من المركبات المنومة والمهدئة؛ وزادت أساليب الدعاية الطين بلة حينما استثارت الناس وحثتهم على استعمالها بلا حدود ولا رقابة.

ولا شك أن الشروط الحياتية المعاصرة بما فيها من الأرق والقلق زادت في الإفراط من تناول المنومات والمسكنات.. فنشأ عن ذلك أجيال من المدمنين؛ لا يزال عددهم آخذا بالتزايد والنماء.

وتنتمي المنومات إلى مجموعات كيميائية مختلفة نذكر منها؛ الباربيتورات ومشتقاتها العديدة كالفيرونال Veronal واللومينال (ألمانيا) أو ما يسمى بالغاردينال (في فرنسا) .. وغيرها.

ولا نستطيع أن ننكر الأثر الدوائي الممتاز لهذه المركبات إذا ما استعملت بقدر الحاجة وتحت رقابة دوائية صارمة.

ولكن إذا عرفنا أن أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة يتناول المنومات والمسكنات وكثير منهم يدمنون على تناولها بشكل مستمر تبين لنا مدى خطورة الموضوع.

وفي سويسرا دلت الإحصاءات على أن الصيدليات باعت في عام (1985) أكثر من (300) مليون حبة من المسكنات. وقد تبين من خلال دراسة قام بها (1100) صيدلي و (1200) مستودع للأدوية في سويسرا أن [ ص: 98 ] ما يزيد عن (20000) شخص يتعاطون المنومات والمسكنات بشكل ملفت للنظر وأن الواحد منهم يستهلك ما بين (10-20) حبة يوميا وأن أعلى النسب وجدت في مدينة بازل ومدينة جنيف .



وأعجب ما في الأمر أن استهلاك هذه الأدوية يبرز في مستوى الشباب المراهق أكثر منه في الكهول الذين عانوا من صنوف الحياة ما عانوا.. الأمر الذي يدعونا لأن نقف أمام حالة إدمان وليس أمام معالجة دوائية.. وتنتهي هذه الأحوال في أحضان الاستعباد الدوائي. [ ص: 99 ]

وتذكر الإحصاءات أن أمريكا استهلكت في عام 1985م من الأدوية المنومة والمسكنة ما تزيد قيمته عن (485) مليون دولار.

1 - الباربيتوريـات

يقدر عدد المركبات المشتقة من حمض الباربيتوريك بحوالي (2500) مركب؛ إلا أن المداواة لا تستعمل أكثر من (50) مركبا منها. وتتميز هذه المشتقات بأن اسمها ينتهي دوما بالكسع (آل) مثل: الغاردينال Gardenal واللومنيال Luminal والتوينال Tuinal والنامبوتال Nembutal والسكونال Seconal والفينوباربيتال Phenobarbital ... الخ.

مع الإشارة إلى أن بعضا منها لا ينتهي اسمه بالجزر (آل) كالسونيريل Soneryl والميدومينMedomine ... الخ. وقد يطلق على هذه المركبات باللغات الدراجة أسماء خاصة كالكرات البلهاء Goof balls والمنوم أو النائم Sleeping وحبات الدواء Pills والبابيتوس Barbitos ... الخ.

تبدوا الباربيتوريات بشكل مسحوق أبيض أو أصفر اللون عديم الرائحة وذي طعم مر. ويباع منها كل عام ملايين الوصفات القانونية؛ وأضعاف ذلك بكثير من خلال تجارة المهربين.

يمكن تناول الباربيتوريات بأشكال دوائية مختلفة كالمضغوطات (حبوب) والمحافظ Capsules والأكاسير Elixir والتحاميل والحقن (الإبر) .

وتصنف البابيتوريات ضمن الأدوية الخطيرة جدا والأكثر رواجا في الخزانة الطبية. ويصفها الأطباء عادة لمعالجة الأرق. ويحصل النوم عادة بعد (30-60) دقيقة من تناول العقار. ويلجأ إليها أيضا لمعالجة القلق وكمضادات للصداع وقبل التخدير العام في العمليات الجراحية أو في [ ص: 100 ] التحليل النفسي. وقد تلجأ إليها الشرطة في بعض حالات التحقيق الجنائي؛ لذلك شاع اسمها تحت اسم (مصل الحقيقة أو مصل الاعتراف) .

(أ) آثـارهـا

يختلف تأثير الباربيتوريات تبعا للمقادير المستعملة وشخصية المستهلك ودرجة التحمل المكتسبة. وهي شبيهة في هذا بالمشروبات الغولية. وهناك باربيتوريات ذات فعل قصير الأمد (أقل من 3 ساعات) وأخرى ذات تأثير متوسط (3-6 ساعات) وذات فعل مديد (أكثر من 6 ساعات) .

تعتبر الباربيتوريات اليوم مسئولة عن آلاف الوفيات العرضية أو الانتحارية. وهي تسبب جميع أطوار الانحطاط اعتبارا من التسكين الخفيف إلى الخدر العميق جدا؛ وأثرها ضعيف نسبيا على تخفيف الألم إلا إذا كانت المقادير عالية جدا حيث يقع المستهلك في حالة إغماء شديد.

ومن أهم آثارها الفيزيولوجية حدوث الخمود التنفسي وتباطؤ الحركات المعدية المعوية؛ وتناقص المفرزات المعدية، والهمود الدماغي الذي يصل إلى درجة السبات العميق والموت.

وفي المستوى النفسي فإن الباربيتوريات تبرز وتبالغ في إظهار الصفات المسيطرة على شخصية المستهلك بصورة آنية؛ ولهذا يشاهد في بعضهم حالات من النشوة والاغتباط؛ بينما تبرز الصفات العدوانية والشرسة عند آخرين. وبعد تناول العقار يفقد المتعاطي سيطرته على عواطفه وانفعالاته؛ وتتراجع لديه قدرة الارتباط الحركية وتضطرب فطنته وحذاقته.

وإذا كان تناول الباربيتوريات يؤدي إلى نوع من الراحة النفسية والجسمية تساعد على نسيان متاعب الحياة في بداية الأمر إلا أن زيادة مقادير [ ص: 101 ] الجرعات يقود دائما إلى أعراض خطيرة جدا: كالارتخاء العام وتخلخلات المفاصل وانعدام المنعكسات واضطرابات الرؤية وعدم المبالاة الشديدة؛ وإذا ما زاد المقدار عن (1-4) غرامات حدث السبات الذي قد يسبب الموت في خلال أيام مع زيادة في الحمى وأعراض رئوية حادة جدا.

أما الانسمام المزمن بالباربيتوريات فيمكن أن يكون له عواقب وخيمة على تحطيم شخصية المدمن. ويلخص بعض العلماء هذه الآثار بما يلي:

· اضطرابات عميقة في المستوى العاطفي والاجتماعي.

· إهمال المظهر الشخصي.

· عجز كامل عن أداء الأعمال بصورة مناسبة والقيام على تأمين شؤون حياته.

· تنفيذ كثير من الأعمال بصورة غير مسؤولة.

· التصرف كالأطفال الذي يدفع إلى البكاء أحيانا والضحك أحيانا أخرى وبدون سبب.

هذا إلى جانب الاضطرابات العقلية والاضطرابات في المزاج النفسي وزيادة في التنبه والاستثارة حتى إن المدمن يصبح في بيته كالوحش الكاسر، وقد يترافق ذلك بانفعالات من الغضب الشديد قد تصل إلى مرحلة التهديد بالانتحار. وقد يصاب المرء بنوع من الشعور بالشلل والضعف عن الحركة العامة وبطء التفكير وضعف في الذاكرة وفأفأة في الكلام وخطوات غير ثابتة أحيانا.

( ب ) درجـة التحمل

ترتفع القدرة على تحمل الباربيتوريات مع الزمن وتزداد الجرعات شيئا فشيئا حتى يحصل المدمن على الآثار التي ينشدها. ويستطيع البدن أن [ ص: 102 ]

يتحمل بعد ذلك (10) أضعاف الجرعات الطبيعية التي تصل إلى الجرعة المميتة.

وإذا أخضع المدمن للحرمان عدة أسابيع انعدمت لديه قدرة التحمل بصورة قاطعة. وقد لوحظ أن ارتفاع قدرة تحمل الباربيتوريات ترفع في الوقت نفسه قدرة التحمل على المشروبات الغولية (تآزر التأثير) .

(ج) سيطرة الباربيتوريات

إن إنقاص الجرعة إلى حوالي (50%) من المقدار المعتاد يترافق بأعراض السيطرة والإذعان للباربيتوريات. وتتجلى هذه الأعراض بصورة الخوف الشديد والضعف المذهل وارتجاف اليدين والعضلات الوجهية والمبالغة في المنعكسات العضلية؛ وارتفاع درجة الحرارة (يصل إلى 41 درجة مئوية) وتسارع النبض وهبوط الضغط الشرياني وغثيان وإقياءات متكررة. وبعد (24-36) ساعة من ظهور هذه الأعراض تبدو حالات من المغص العضلي والاختلاجات الصرعية. وفي خلال هذه الطور تتفاقم درجة التعرض للموت؛ وإذا أسعف المدمن بسرعة فلا يشفى من هذه الأعراض إلا بعد مرور (10-15) يوما.

وخلاصة القول: فإن الباربيتوريات تقدم آثارا طبية هامة ولكن استخدامها غير المسئول لا يخلو من الأخطار الشديدة والعواقب الوخيمة. ولدى معالجة المدمنين يجب الانتباه إلى عدم إيقاف الجرعات بصورة مفاجئة دون الرقابة الطبية. وفي حالة الانسمام المزمن لا بد من اللجوء إلى المشافي المتخصصة للمعالجة التي غالبا ما تتطلب إجراء التنفس الاصطناعي وغسل المعدة. وبالجملة لا يجوز استعمال هذه المركبات بدون وصفة طبية من طبيب معالج يعود إليه تقدير الحاجة بالدرجة الأولى. [ ص: 103 ]

2 - المـهـدئات: Tranquillisants

ينطبق تعبير المهدئات على كثير من العقاقير التي تختلف في تركيبها الكيميائي ولكنها تتصف جميعها بقدرتها على تخفيف أو إزالة الاستثارات الانفعالية. وتتميز المهدئات عن المشروبات الغولية والباربيتوريات والمسكنات الأخرى بأن أثرها الاصطفائي يفعل بصورة أقل على المستوى العام لحالة اليقظة.

ظهرت المهدئات في الأسواق التجارية في بداية هذا القرن وهي تصنع وتستهلك اليوم بالأطنان. ويكفي أن نذكر أن الولايات المتحدة وكندا تصرفان ما يزيد عن (500) مليون دولار سنويا على شراء هذه العقاقير لمعالجة حالات القلق والاضطرابات النفسية الناشئة عن تعقد الحياة الحضارية المعاصرة.

تقضي قوانين المداواة ألا تصرف هذه المركبات إلا من خلال وصفة طبية. ويعتبر الفاليوم Valium من أكثرها رواجا ثم يليه الليبريوم Librium والميلتاونMiltown والميبروباماتMeprobamate. وتباع جميعا بأسماء وأشكال صيدلانية متعددة جدا؛ وتصنف في زمرة مخمدات فاعلية الجملة العصبية.

استعمالهـا

يميز في المهدئات مجموعتان كبيرتان: المهدئات الصغرى T.mineurs والمهدئات الكبرى T.majeurs.

أما المهدئات الكبرى كالرزربين والكلوربرومازين ومشتقات البريتيروفينون، فهي معدة فقط لمعالجة الأمراض العقلية الخطيرة كانفصام الشخصية (الشيزوفرينيا) . وبصورة عامة تستطيع هذه العقاقير أن تعالج [ ص: 104 ] بنجاح التوتر النفسي والقلق دون أن تؤثر في الحالة العامة للمريض. إلا أن أثرها لا يتظاهر إلا ببطء ويقود عادة إلى اختلاطات جانبية غير مرغوبة وخاصة فيما يتعلق بالضغط الشرياني والتناسق الحركي؛ وهذا ما أدى لأن يعزف المدمنون عن هذا النوع من العقاقير.

أما المهدئات الصغرى فتوصف عادة لمعالجة التوتر العصبي والاضطراب والقلق؛ كما تستعمل أحيانا في معالجة المدمنين على الخمور والغثيان وإقياءات الحمل أو دوار البحر. ويستهلكها أبناء الغرب كاستهلاكهم للمشروبات الغولية بلا وعي ولا حدود. وقد بينت الدراسات الحديثة أثر هذه المركبات في إحداث الإدمان والسيطرة على المريض.

وقد اهتمت منظمة الصحة العالمية بهذه الظاهرة وأصدرت التوصيات الواحدة تلو الأخرى وحذرت من الإفراط في تناول هذه العقاقير وسنت الأنظمة التي تحد أساليب صرف الدواء؛ على هدي من القاعدة القائلة بأن كل دواء يمكن أن يسبب الإدمان يجب ألا يصرف إلا بوصفة طبية يذكر فيها اسم المريض واسم الطبيب المعالج ولا يجوز تجديد الوصفة إلا تحت رقابة شديدة ومنضبطة. [ ص: 105 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية