الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

صفحة جزء
مفهوم السنة والحديث

إن عناية المسلمين -ابتداء من الصحابة الكرام- بالحديث وعلومه كانت ثمرة معرفة عميقة وأكيدة بالسنة ومعناها والحاجة إليها، فقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم هـذا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ما يتلقونه إما قرآنا يتلى ويتعبد به، وإما أقوالا وأفعالا وتقريرات وصفات صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره رسول رب العالمين، وكان مما أخبرهم به كتاب الله تعالى أن محمدا صلى الله عليه وسلم معصوم في قوله وفعله وإقراره وصفته: ( وما ينطق عن الهوى * إن هـو إلا وحي يوحى ) [النجم:3، 4]،

وقال لهم: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [الحشر:7]،

وجعل طاعتهم له سببا في هـدايتهم: ( وإن تطيعوه تهتدوا ) [النور: 54]،

وحذر الذين يخالفون أمره: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) [النور:63]،

ومن هـنا فقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم معنى شهادة "أن محمد رسول الله" وأنها شق الركن الأول من أركان الإيمان، وأن مقتضى هـذه الشهادة التسليم بجميع ما جاء به هـذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولما كانت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتناول الدنيا والآخرة، والفرد والجماعة، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعقيدة والشريعة، والسر والعلن، فقد كان عليهم أن تستيقظ قلوبهم وعقولهم وأبصارهم [ ص: 26 ] وأسماعهم لمتابعته والسير على هـديه، وأدركوا أن أقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته في أحواله كلها سنة.

السنة في اللغة والاصطلاح

والسنة في اللغة من مادة (سن) . يقول ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة": (السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء، واطراده في سهولة، والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنه سنا إذا أرسلته إرسالا) >[1]

وقال ابن الأعرابي : (السن مصدر سن الحديد سنا، وسن للقوم سنة وسننا، وسن الإبل يسنها سنا إذا أحسن رعيتها، حتى كأنه صقلها، وسن المنطق حسنه، فكأنه صقله) ، وتابع صاحب "لسان العرب" في ذكر معاني هـذه المادة اللغوية التي تدور على معاني الجريان والاطراد والصقل والإحداد، ولما كان الوجه مجمع الحسن أطلق عليه: سنة، قال ذو الرمة :


بيضاء في المرآة سنتها ملساء ليس بها خال ولا ندب >[2]



وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تحمل هـذه المعاني اللغوية، لما فيها من جريان الأحكام واطرادها، وصقل الحياة الإنسانية بها، فيكون وجه المجتمع السائر على هـديها ناضرا بخيرها وبركتها، ويستفاد من المعاني اللغوية أن السنة فيها معنى التكرار والاعتياد، وفيها معنى التقويم، وإمرار الشيء على الشيء من أجل إحداده وصقله. [ ص: 27 ]

وسن الله سنة أي بين طريقا قويما، وسنة الله أحكامه وأمره ونهيه، وقد ورد ذكر السنة والسنن في القرآن الكريم سبع عشر مرة، وفي جميع المواضع يكون المعنى: أحكام الله الجارية المطردة.

وأما في الاصطلاح:

فالسنة ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية من مبدأ بعثته حتى وفاته، وقد تأتي السنة قولا أو فعلا من الصحابة باعتبارهم شهود عصر النبوة المقتبسين من مشكاتها، أو من التابعين باعتبارهم شهود عصر الصحابة، وأقرب الناس إلى عصر النبوة.

وأما الحديث : فهو أعم من السنة من حيث المفهوم، إذ أنه يزيد على السنة في تناوله لكل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ولو كان منسوخا ليس عليه العمل، ويتناول صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلقية من حيث لونه وجسمه وشعره وطوله، وصفاته الجبلية من حيث صحته ومرضه، وما يميل إليه من الطعام وما لا يرغب فيه، فليس المقصود برواية هـذه الأمور الجريان والاعتياد والاتباع، وإنما المقصود -عند روايتها- الوقوف على عصر النبوة، ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يصبح شخصه وعصره ومراحل سيرته على تمام الوضوح والجلاء، وقد وضح علماؤنا هـذا التفريق بين الحديث والسنة، وروي عن ابن مهدي أنه قال: ( سفيان الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعا) >[3] ، ومعنى ذلك أن سفيان [ ص: 28 ] الثوري أكثر رواية للأخبار ومعرفة بالنقد وبالرجال، والأوزاعي أعلم بالطريقة العملية من سنن الأقوال والأفعال والأخلاق، ومالك جمع بين الأمرين، بين الطريقة العملية وبين الرواية والنقد.

وانسجاما مع هـذا التفريق فإن أخبار الجاهلية المروية في كتب الحديث تدخل في الحديث ولا نطلق عليها مسمى السنة، وكذلك الأحاديث المنسوخة كحديث الوضوء مما مست النار، وهو ما صح عن أبي هـريرة أنه قال: ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوضوء مما مست النار، ولو من ثور أقط، قال: فقال له ابن عباس : يا أبا هـريرة: أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ قال: فقال أبو هـريرة: يا بن أخي: إذا سمعت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلا ) >[4] ، فهذا الحديث يفيد أن من يأكل أو يشرب ما طبخ على النار فإنه يتوضأ بعد ذلك، والسنة ليست على هـذا، بل على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما ، قال أبو عيسى الترمذي : (والعمل على هـذا -أي ترك الوضوء مما مست النار- عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، مثل سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق ، إذ رأوا ترك الوضوء مما مست النار، وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن هـذا الحديث ناسخ للحديث الأول: حديث "الوضوء مما مست النار" >[5] . [ ص: 29 ]

ونخلص من هـذا إلى أن الحديث أعم من السنة ، فكل سنة حديث، وليس كل حديث سنة، والسنة هـي غاية الحديث وثمرته، ومن السنة ما يفيد الوجوب أو الحرمة ومنها ما يفيد الندب أو الكراهة ومنها ما يفيد الإباحة، وهذا مدلول السنة عند المحدثين، وأما الفقهاء فالسنة عندهم نوع من الأحكام الشرعية، وهي ما أفاد الاستحباب والندب.

التالي السابق


الخدمات العلمية