الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

صفحة جزء
نقد المتن

شبهة

زعم المستشرقون وتلامذتهم والمتأثرون بهم أن علماء الحديث برعوا في نقد السند ومعرفة الرجال ، وكان التصحيح والتضعيف عندهم يدور مع السند، فإذا صح السند صح الحديث، ولا عبرة بالمتن. وإن جرى نقد للمتن فهو قليل إذا ما قيس بنقد السند. وعلل بعضهم هـذه الظاهرة المزعومة بما نسب إلى العقل السامي من وقوف عند الأشكال وعدم التعمق في فهم الموضوع. ولقد صدق بعض المفكرين المسلمين هـذه المقولة فشن حملة على متون الأحاديث التي لم يقبلها عقله، وكأنه يقوم بواجب لم يستطع علماؤنا السابقون أن يؤدوه. وقد استغل آخرون هـذه المقولة للنيل من السنة النبوية ومناهجها.

الرد

إن هـذا الزعم باطل، وتدحضه الأدلة الكثيرة التي نذكر منها:

1- إن نقد المتن أمر مقرر في قواعد الحديث، وقد بدأ قبل الجرح والتعديل وظهور الإسناد، ونجد هـذا في المناقشات الطويلة التي كانت تقوم بين الصحابة رضي الله عنهم ، فعائشة اعترضت على عدد من الروايات، لا لضعف الرواة، ولكن لأن هـذه الروايات لم تنسجم مع المبادئ العامة والبدهيات الشرعية والعقلية. وقد صنف الزركشي كتابا في استدراكات عائشة على الصحابة، وجميع [ ص: 106 ] هذه الاستدراكات نقد للمتن. وكذلك فعل عمر ومعاوية وغيرهما رضي الله عن الجميع.

2- إن نشأة المذاهب الفقهية والاختلافات بين هـذه المذاهب مبني في معظمه على نقد المتن، فالشافعي يختلف مع غيره في كثير من الأحيان لا في ثبوت النص وإنما في فهم النص، بل إن أتباع المذهب الواحد تتباين أنظارهم تبعا لفهمهم للمتن وتفسيره. والذين تمسكوا بظاهر النص ومنطوق المتن فئة واحدة هـم الظاهرية.

3- وكذلك الحال في نشأة المذاهب السياسية والعقيدية الكلامية، فمعظم الاختلاف مبني على فهم النصوص. ومتون الحديث تشكل قسما كبيرا من هـذه النصوص.

4- لقد نشأ علم كامل هـو علم اختلاف الحديث -أو مختلف الحديث أو مشكل الحديث- وموضوع هـذا العلم البحث في المتون، ومن ذلك كتاب "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي، و"تهذيب الآثار"للطبري ، و"مختلف الحديث" لابن قتيبة .

5- لقد أولى علم العلل متن الحديث عناية خاصة، حتى كان موضوع هـذا العلم الحديث الذي ظاهر إسناده الصحة. وكان العلماء يضعفون الحديث -أحيانا- والسند صحيح جيد، ويقولون: منكر المتن، شاذ، مضطرب، غريب >[1] ، فيه ظلمة، يقشعر منه [ ص: 107 ] الجلد، لا يطمئن له القلب، وغير ذلك من العبارات الكثيرة.

6- إن الأحاديث الموضوعة يستدل على وضعها من المتن قبل الاستدلال من السند؛ لأن أكثر الكذابين كانوا يسرقون الأسانيد، بمعنى أنهم يركبون الإسناد الجيد على المتن الموضوع أو يلقنون الثقة في مراحل اختلاطه فيروي الموضوعات بأسانيده الصحيحة، وقد عمد بعض الكذابين إلى كتب شيوخهم الثقات فأدخلوا عليها أحاديث مكذوبة، وكتبوها بين السطور، إلى غير ذلك من الوسائل الخبيثة، ولكن العلماء كشفوا هـذا كله وسجلوه في كتب الموضوعات.

7- إن السند هـو إحدى الدلالات على الصحة، وليس هـو الدليل الوحيد عليها.

8- إن النقد عند علماء الحديث يمكن أن نطلق عليه: (نقد المروي) بغض النظر عن كون الموضوع الواقع عليه النقد سندا أو متنا، والسند والمتن جميعا عند الناقد جملة واحدة، قد يدخل الخطأ والوهم على أي جزء منها، فقد يخطئ في ذكر الاسم وقد يخطئ في عبارة التحمل -حدثنا، أو أخبرنا- وقد يخطئ في الرفع أو الوقف أو الإرسال، وقد يخطئ في عبارة المتن فيختصرها اختصارا يخل بها، أو ينقص منها ما حقه أن يكون فيها.

9- إن نظرة في الكتب الستة المتداولة تعطينا الدليل الأكيد على العناية بالمتون ونقدها، فالبخاري يختار الرواية من بين مئات الروايات، وقد ثبت بعد جمع الروايات أن اختياراته مدروسة وقائمة على [ ص: 108 ] البحث والتتبع. وقد ظهر الاتجاه نحو نقد المتن على يد الإمام الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

وأخيرا، إن معلوماتنا اليوم عن الحديث ونقده أضعاف معلومات الذين أثاروا الشبهات حول الحديث، وذلك لاتساع المكتبة الحديثية، وكثرة المطبوع منها، واستخراج دفائنها، وما كان يحظى بالقبول منذ خمسين عاما أصبح غير مقبول اليوم. [ ص: 109 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية