التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي

عبد الحق الشكيري

صفحة جزء
مقدمة

شهدت الإنسانية منذ فجرها، ومنذ أن أوجدها الله على هـذا الكون، عديدا من التصورات: كانت سطحية أحيانا، وعميقة التأثير أحيانا أخرى، تبعا للأهداف التي ترمي إليها، والبواعث الداعية، والدوافع التي عبأت القوى الموجهة لها.

والشيء الذي يلحظه المتقصي لأبعادها، هـو وحدة الأهداف السامية والغايات المثلى النبيلة التي كان ينشدها مباشروها.

ومن يتتبع تصورات الإنسان في مدارج تقدمه، منذ بداية وجوده إلى الآن، يحس في أعماقه بذلك الطموح الفائر الذي كان يدفع الإنسانية دائما إلى نشدان الطمأنينة الأبدية التي يبلورها الشعور بالكرامة، واستقلال الذاتية، وما ينشأ عنها من أخوة إنسانية، يحتمها تبادل المصالح والمنافع، والحفاظ على المستوى الرفيع الذي يحقق لها الديمومة والاستمرار.

وقد جاءت الشرائع السماوية تذكر الإنسان دائما بأن أحلامه في بناء عالم أفضل ليست خيالات، وإنما هـي حقيقة كامنة في أعماقه، وأنه بقليل من الإيمان والجهد يستطيع هـو نفسه أن يجعلها مدركة محسوسة. [ ص: 19 ]

وأكدت المعاناة والتجربة أن الشرائع الإلهية لم يكن هـدفها إلا ذلك، أي تذكير الإنسان بقدرته على تخطي العقبات، وتجاوز الإحباطات، وتحقيق أمانيه، وكل ما يصبوا إليه إذا ما استنار بوحي الله.

ونحن في الوقت الذي نعتقد ألا مندوحة للعالم من بناء جميع أسس وجوده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على دعائم العمل الجدي المثمر المتواصل لتحقيق كل الغايات الإنسانية الحقة التي أوجد من أجلها على هـذه الأرض، وقدر عليه حمل أمانتها، نرى كذلك ألا سبيل للوصول إلى هـذا البناء، إلا بقيام أخوة إنسانية تعتمد العدالة الاجتماعية أساسا لعلاقاتها، والمساواة التامة ركيزة لقيامها.. وبذل مزيد من التضحيات منطلقا لإثراء معطياتها الإيجابية، ثم دعوة جميع الأمم إلى الانضواء تحت لوائها والاستظلال بوارف ظلالها. ذلك أنه بهذه الأخوة ستطمئن مختلف الخلايا الاجتماعية إلى وجودها، ومصير هـذا الوجود، وستتجه تلقائيا اتجاهات بناءة تبعد عن عالمها الهزات العنيفة التي تنتابها بين الحين والآخر، وتنجيها من رجات الأهواء والأنانية المدمرة، وتضع حدا بينها وبين الحروب المخربة.

والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثا، وهو يبعث الرسل ويفيض بالنبوة على الإنسان أجل العطايا وأعظم البركات.

وهكذا قضى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته نهاية المطاف لجميع الرسالات الإلهية. [ ص: 20 ]

فكان من الطبيعي أن تكون الأمة التي حملت هـذه الرسالة قد هـيئت لذلك، ثم كان طبيعيا أيضا أن تكون هـذه الرسالة قد بلغت - هـي الأخرى - درجة من الشمولية لجميع ما قد يحتاج إليه الإنسان في رحلته في هـذه الحياة.

لذلك كانت رسالة الإسلام مجسمة بصورة حية للمجتمع المثالي الذي على الإنسان أن ينشده؛ إذا كان حقا يريد أن يكون لوجوده معنى ولحياته طعما.

وحيث إن أبرز المشاكل العالمية التي ظلت تواجه الإنسانية منذ بدء الخليقة هـي في عمومها مشاكل اقتصادية، أو هـي مشكلة العيش والطعام، ومعضلة أسباب توفرهما بالقدر الحيوي على الأقل، فإن ما هـدف إليه الإسلام هـو أن يضمن للإنسان ذلك القدر اللازم من الحاجيات الضرورية لحياته والأساسية لوجوده ليجد هـناءة الضمير، ويحس هـدوء الفكر، ويباشر مسئوليات الحياة الأخرى.. ذلك أن الإسلام - وهو من عند الله - يدرك أن البطون الجائعة أبعد ما تكون عن الإيمان بجدوى المنطق المتزن والفكر الراجح.

والواقع أن المشكلة الاقتصادية قد أخذت في عصرنا الحاضر أبعادا خطيرة، وبلغت درجة من التعقيد والتشابك ربما لم تبلغها في أي عصر من العصور، وتأخذ هـذه المشكلة حيزا واسعا ضمن ظاهرة أعم وأشمل هـي ظاهرة التخلف. [ ص: 21 ]

وقد ارتبط وجود هـذه الظاهرة -ظاهرة التخلف- بظهور الاستعمار الذي حول بلادنا إلى بلاد تابعة، وأرسى دعائم استمرار هـذه التبعية عن طريق التعليم ووسائل الإعلام وغيرها.

وبعد حصول بلادنا على الاستقلال الرسمي، حاولت القضاء على مظاهر التخلف وتحقيق التنمية، إلا أن هـذه المحاولات باءت بالفشل، لأنها لم تخرج عن إطار نقل النماذج الأوروبية والمستوردة للتنمية، ومحاولة فرضها على البلاد الإسلامية دون أن تراعى خصوصياتها.

وهكذا تقلبت الأمة الإسلامية في مراحل من الحيرة والتردد، واختارت مناهج متعددة لمستقبلها، وكانت تكتشف في كل مرة عمق الفجوة التي تفصل بين الأمل والواقع، وكان المواطن باستمرار يقف بعيدا عن اختيارات قياداته، ولا يستجيب لنداءاتها المتكررة التي تدعوه لكي ينضم بقواه وعواطفه وجهوده لما تختاره له من مسيرات، ولعل سبب ذلك هـو أن تلك القيادات لم تستطع أن تتفهم جيدا مطامح شعوبها وتطلعاتها، فكان كل جهد محكوما عليه بالفشل؛ لأن المواطن لا يجد المسوغ المقنع الذي يجعله يدافع عنه ويحميه، ومن حق المواطن أن يرفض ما يجبر عليه من اختيارات، خاصة إذا كانت تلك الاختيارات لا تلبي مطامحه الوجدانية، ولا تعمق ارتباطه بذاته وبأمته وبدينه.

ولقد بات واضحا أن التحدي الذي يواجه الأمة الإسلامية ويهددها في شخصيتها وكيانها واستقلالها هـو تحد حضاري، وليس تحديا اقتصاديا أو سياسيا فحسب. [ ص: 22 ]

فإذا كان التخلف الذي تعاني منه البلاد الإسلامية، هـو تخلف حضاري بالأساس تراكم عبر عدة قرون، فإن التنمية لا بد أن تكون تغييرا حضاريا يتناول أبنية المجتمع كافة، وبما أن الإسلام يمثل المحتوى الحضاري للأمة الإسلامية، فلا بد أن تكون هـذه التنمية نابعة من ديننا وتراثنا، وتكون بذلك النهضة الإسلامية الحضارية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هـي المقابل الموضوعي لذلك التحدي الحضاري.

والكتاب الذي بين أيدينا محاولة متواضعة على طريق تحقيق النهضة الإسلامية المطلوبة التي تعتبر التنمية الاقتصادية أهم وأخطر جوانبها.

عبد الحق الشكيري [ ص: 23 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية