التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي

عبد الحق الشكيري

صفحة جزء
خصوصية البلاد الإسلامية

من خلال هـذا العرض للمفاهيم المغلوطة للتنمية نستنتج أن من الخطأ ما يرتكبه الكثير من المفكرين الذين يعالجون مشاكل البلاد الإسلامية، وينقلون إليها النماذج الأوروبية والغربية للتنمية، دون أن يراعوا [ ص: 30 ] خصوصية هـذه البلاد، ودون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوبنا الإسلامية مع هـذه المناهج، ومدى قدرة المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمة الإسلامية، ذلك أن جوهر التنمية هـو تغيير حضاري يتناول أبنية المجتمع كافة، ويشمل جوانبه المادية والمعنوية، ومن ثم فإن أية نظرية للتنمية، لا بد وأن تنبثق من ظروف وواقع وتراث هـذه المجتمعات. فيجب ألا نغفل أبدا ذلك الشعور النفسي الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار ، الذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ طويل من الاستغلال والصراع، فهذا الشعور قد خلق نوعا من الانكماش لدى الأمة الإسلامية تجاه المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي، وشيئا من القلق تجاه الأنظمة المستمدة من الأوضاع الاجتماعية السائدة في بلاد المستعمرين، وحساسية شديدة ضدها؛ هـذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة -حتى ولو افترضنا أنها صالحة ومستقلة عن الاستعمار من الناحية السياسية - غير قادرة على تفجير طاقات الأمة، وقياداتها في معركة البناء والنهوض.

وإلى جانب الشعور المريب للأمة الإسلامية تجاه الاستعمار، وكل المناهج المرتبطة ببلاد المستعمرين ومعطياتها، هـناك أمر آخر، يشكل صعوبة أيضا في طريق نجاح المناهج المستوردة من الغرب إذا طبقت في العالم الإسلامي، وهو التناقض بين هـذه المناهج والعقيدة الدينية التي يحملها المسلمون ويؤمنون بها، بوصف هـذه العقيدة قوة تعيش داخل العالم الإسلامي، ذلك أن قوة هـذه العقيدة مهما قدرنا لها من ضعف [ ص: 31 ] مؤقت نتيجة لعمل الاستعمار، فلا يزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك، وتربية المشاعر وتحديد النظرة إلى الأشياء والقيم؛ فإذا كانت الأمة تحس بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية، وبين عقيدة لا تزال تعتز بها، وتحافظ على بعض توجيهاتها في الحياة على الأقل، فسوف تحجم -بدرجة تفاعلها مع تلك العقيدة- عن التجاوب والعطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض.

وخلافا لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هـذا التعقيد، ولا يعرف تناقضا من هـذا القبيل، بل إنه إذا وضع موضع التطبيق، سوف يجد في العقيدة الدينية سندا كبيرا له، وعاملا مساعدا على إنجاح عملية التنمية الموضوعة في إطاره؛ لأن أساس النظام الإسلامي هـو الشريعة الإسلامية، وهي أحكام يؤمن المسلمون بقدسيتها، وحرمتها ووجوب تطبيقها، وما من شك في أن أهم العوامل في نجاح المناهج التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية، احترام الناس لها، وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق.

ومن ناحية أخرى يجب أن نؤكد أن للناس في الواقع أخلاقيتين: أخلاقية تعيش داخل العالم الإسلامي، وأخلاقية أوروبية تعيش داخل العالم الغربي، هـي التي واكبت الحضارة الغربية، ونسجت لها روحها، ومهدت لنجاحها. والأخلاقيتان تختلفان اختلافا جوهريا في الاتجاه والنظرة والتقويم، وبقدر ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي [ ص: 32 ] للتفاعل مع المناهج الغربية التي هـي ثمرة لها بقدر ما تتعارض أخلاقية الإنسان المسلم معها، وهي أخلاقية راسخة، لا يمكن استئصال جذورها لمجرد تمييع العقيدة الدينية، وأي تخطيط للمعركة ضد التخلف يجب أن يدخل في اعتباره مدى انسجام العنصر البشري مع هـذا المخطط أو ذاك.

إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائما لا إلى السماء، وحتى النصرانية بوصفها الدين الذي آمن به الإنسان الأوروبي مئات السنين لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية المادية في الإنسان الأوروبي، بل لقد استطاع هـو أن يستنزل الإله الذي آمن به النصارى إلى الأرض.

وليست هـذه المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان، وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض، والبيئة التي يعيش فيها، أو المحاولات العلمية لتفسير الحياة الإنسانية على أساس القوى المنتجة، التي تمثل الأرض وما فيها من إمكانات، ليست هـذه المحاولات إلا كمحاولة استنزال ما يؤمنون به إلها إلى الأرض في مدلولها النفسي، وارتباطها الأخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض، وإن اختلفت تلك المحاولات في أساليبها، وطابعها العلمي أو الأسطوري.

ولقد استطاعت هـذه القيم التي ترسخت عملية الزمن في الإنسان الأوروبي أن تعبر عن نفسها من خلال مذاهب اللذة والمنفعة، التي [ ص: 33 ] اكتسحت التفكير الفلسفي الأخلاقي في أوروبا ، إن هـذه المذاهب -بوصفها نتاجا فكريا أوروبيا سجل نجاحا كبيرا على الصعيد الفكري الأوروبي- لها مغزاها النفسي ودلالتها على المزاج العام للنفس الأوروبية.

كما أن انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى أو نظرته إلى الأرض بدلا من نظرته إلى السماء، انتزع من ذهنه أية فكرة حقيقية عن قيومية رفيعة من جهة أعلى أو تحديات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته، وهيأه ذلك نفسيا وفكريا للإيمان بحقه في الحرية، وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية.

فهذه الأخلاقية تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الأمة الإسلامية في عالمنا الإسلامي، نتيجة لتاريخها الديني، فالإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء، وعاشت في بلاده، ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض، ويؤمن بعالم الغيب إلى جانب عالم المادة المحسوس، وهذا الإيمان العميق بعالم الغيب وعالم الشهادة ، هـو الذي عبر عن نفسه في حياة المسلمين، باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى المناحي العقلية من المعرفة البشرية، وعدم التركيز على المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس فقط.

والإيمان العميق بالغيب في مزاج الإنسان المسلم، حد من قوة إغراء المادة له وسيطرتها عليه، وقابليتها لإثارته، الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم الإسلامي إلى موقف متوازن، يتخذ شكل القناعة، وهكذا فإذا [ ص: 34 ] ألبست الأرض إطار السماء، وأعطي العمل حقه الواجب، واتضح مفهوم أن العمل عبادة، فسوف تتحول النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة، وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبدلا مما يحسه المسلم السلبي اليوم -نتيجة لمفهومات مغلوطة- من برود تجاه الأرض، أو ما يحسه المسلم النشيط، الذي يتحرك وفق المناهج الغربية والشرقية، من قلق نفسي في أغلب الأحيان، سوف يولد انسجام كامل بين نفسية إنسان العالم الإسلامي، ودوره الإيجابي المرتقب في عملية التنمية.

فحينما نأخذ بالمنهج الإسلامي للتنمية، سوف نستفيد من هـذه الأخلاقية، ونستطيع أن نعبئها في المعركة ضد التخلف، على عكس ما إذا أخذنا بمناهج ترتبط نفسيا وتاريخيا بأرضية أخرى.

إن الأخذ بالإسلام أساسا للتنظيم العام، يتيح لنا أن نقيم حياتنا كلها -بجانبيها المادي والمعنوي، الروحي والاجتماعي- على أساس واحد؛ لأن الإسلام يمتد إلى كل الجوانب الحياتية للفرد، بينما يقتصر كثير من المناهج والمذاهب الاجتماعية الأخرى على جانب العلاقات الاقتصادية والاجتماعية من حياة الإنسان، فإذا أخذنا مناهجنا العامة في الحياة من المصادر البشرية بدلا من النظام الإسلامي، لم نستطع أن نكتفي بذلك عن تنظيم آخر للجانب الروحي، ولا يوجد مصدر صالح [ ص: 35 ] لتنظيم حياتنا الروحية إلا الإسلام، فلا بد حينئذ من إقامة كل من الجانبين الروحي والاجتماعي على أساس خاص به، مع أن الجانبين ليسا منعزلين أحدهما عن الآخر، بل هـما متفاعلان إلى درجة كبيرة، وهذا التفاعل يجعل إقامتهما على أساس واحد أسلم، وأكثر انسجاما للتشابك والتداخل الأكيد بين النشاطات الروحية والاجتماعية في حياة الإنسان.

ومهما يكن فقد جربنا المناهج الغربية للتنمية بكل أنواعها، وفسر كثيرون تخلف العالم الإسلامي تفسيرات تقود إلى التخلي عن إسلام الأمة وتراثها وحضارتها وتاريخها ووجدانها، ودعوا إلى اقتفاء آثار الغرب كما يريد الغرب، لماذا؟ لكي نهزم الغرب ونحرر البلاد منه‍‍!!‍‍ ولقد مضت عشرات السنين على تلك الآراء وهي تسود وتقود، وفرضت نفسها على الواقع بدعم الغرب المستعمر نفسه، وسيطرت على برامج البناء والتطوير، فهل كان ذلك هـو الطريق القويم إلى القضاء على التخلف والتبعية، وتحقيق التقدم والتحرر من ربقة السيطرة الأجنبية؟ أم أننا ازددنا تخلفا وتبعية، وزاد تفوق الغرب علينا وزدنا اعتمادا عليهم وطلبا لسلعهم؟ ووصل الأمر أننا أصبحنا نعتمد على الخارج حتى في تلبية حاجاتنا الغذائية، بعد ما كانت بلادنا فيما مضى تفيض بهذه الخيرات؟

إن هـذه الأسئلة وأشباهها قد أجاب عليها الواقع العملي الذي نعيشه ونراه أمامنا، ولم يعد هـنالك من مجال للمكابرة، ولم يعد من الممكن تسويغ تلك المقولات إلا بطرح مقولات أخرى بحلة جديدة، ولكنها من [ ص: 36 ] الطينة نفسها، الأمر الذي يتطلب عشرات السنين حتى نجد أنفسنا مرة أخرى وقد ازددنا تخلفا وانحطاطا وتبعية، فهل نحن بحاجة إلى أن نلدغ من الجحر عشرات المرات حتى نتعلم ونتعظ؟ إن بلادنا الإسلامية تقف الآن أمام مفترق طرق، فإما توغل في طريق الحداثة الغربية واستبدال موضوعات بأخرى، وإما عودة إلى أرضنا الطيبة، والوقوف عليها بثبات ورسوخ، وعدم الخوف من الدفاع عنها أمام الإرهاب الفكري وطغيان التغريب، ومن ثم يمكن أن نتجه إلى إحداث نهضة حقيقية، وتحقيق تقدم في مختلف مناحي الحياة الروحية والثقافية والاجتماعية والمادية.

ولعل المسافة التي قطعت حتى الآن على الطريق الذي رسمته تلك الأفكار والنظريات القائلة بضرورة أخذ الفكر والنهج من الغرب، واقتفاء آثار مجتمعاتهم المصنعة، لكي نمسك بالعوامل التي دفعتهم إلى السيطرة علينا، يجب أن تكون كافية للاتعاظ ووقف حالة التدهور.

إن عملية القضاء على التخلف والتبعية والاستغلال ، تتطلب التركيز على الجانب العقيدي الفكري الحضاري، لأن المسألة تمس الأهداف والغايات التي نحددها، وتتعلق بنهج الحياة الذي نتبعه أي أنها مسألة عقيدية حضارية، ومن هـنا ندرك لماذا ركز الاستعمار في حربه لنا على الإسلام، وعمل على تحطيم المقومات الأساسية لمجتمعاتنا، وقد أثبتت الوقائع أنهم بقدر ما أصابوا نجاحا في هـذا السبيل بقدر ما توغلنا في مستنقع التخلف والتبعية والانحطاط. [ ص: 37 ]

ولقد آن الأوان لأن ينتهي ذلك الانبهار بعالم " البيض المتمدينين " الذين أقاموا حضارتهم على أشلاء الهنود الحمر ، والأفارقة المسلمين، ومئات الملايين من الشعوب الآسيوية، ومن ثم لم يعودوا قادرين على التعامل مع خارجهم إلا بلغة الحديد والنار، والنهب والتوسع، واستعباد الآخرين، وقد أصبح ذلك شرط محافظتهم على ما يتمتعون به من رفه ومستويات معيشية عالية، مما يجعل خططهم وأفكارهم تدور بوعي أو بدون وعي، حول كيفية الإبقاء على سيادتهم، والمحافظة على تبعية الآخرين لهم، ومن ثم لا يمكن أن تأتي المواجهة إلا من خارجهم، ولا يمكن أن تكون إلا نقيضا لثقافتهم وحضارتهم، ويأتي في المقدمة المشروع الإسلامي باعتباره المشروع النقيض لصالح الحضارة الغربية، التي استعبدت الشعوب، وحكمتهم بشريعة العنف والنهب والاستغلال.

التالي السابق


الخدمات العلمية