التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي

عبد الحق الشكيري

صفحة جزء
الفصل الثاني

التنمية الاقتصادية في المفهوم الإسلامي

اهتم الكثير من المفكرين والفقهاء المسلمين بقضايا التنمية الاقتصادية، مبينين بجلاء أنها ليست عملية إنتاج فحسب، وإنما هـي عملية كفاية في الإنتاج مصحوبة بعدالة في التوزيع، وأنها ليست عملية اقتصادية بحتة، وإنما هـي عملية إنسانية تهدف إلى تنمية الإنسان وتقدمه في المجالين المادي والروحي.

ولسنا هـنا بصدد تتبع أفكار الفقهاء القدامى واجتهاداتهم في قضايا التنمية، وما هـي في نظرهم أولويات التنمية الاقتصادية الإسلامية، وما هـي طرق تمويلها.... مما لا تتسع له دراستنا الحالية.

وإنما الذي يهمنا إبرازه هـنا، هـو أن التنمية الاقتصادية قد شغلت فكر المسلمين القدامى، بحثت تحت لفظ " عمارة الأرض " الذي جاء في قوله تعالى: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) [هود:61]، أي كلفكم بعمارتها، واصطلاح " عمارة الأرض " يشمل بالتأكيد التنمية الاقتصادية، إذ " يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتابه إلى واليه علي مصر : " وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا [ ص: 44 ] بالعمارة، ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد " . "

وهاهو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يلخص لنا مهمة القادة وأساس الحكم في خطابه الموجه إلى نائبه على أحد أقاليم الدولة حين سأله: " ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ قال أقطع يده، قال: وإذن فإن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف أقطع يدك، إن الله سبحانه وتعالى استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هـذه النعم تقاضيناهم شكرها، يا هـذا: إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملا، التمست في المعصية أعمالا، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية. "

إن قضية توفير فرص العمل هـنا واضحة، وهذه لا تكون إلا بإيجاد الاستثمارات والأعمال، ولا مكان للبطالة لأنها مفسدة، ولا مكان لظلم العمال، وشرط إقامة الحد على الناس تحقيق الكفاية لهم، فإن لم توجد أوقفت الحدود حتى تكفي الحاجات. وكفاية الحاجات ممكنة بالعمل، ولا مكان للتواكل في الإسلام، وإذا كنا اليوم ندرك أن التنمية الاقتصادية تعني توفير ما اصطلح عليه بالفائض الاقتصادي، واستخدامه في زيادة قدرات المجتمع الإنتاجية -بحيث لا يحصل التخلف إلا إذا فقد المجتمع فائضه الاقتصادي، أو بدده في مصارف غير إنتاجية، أو في استهلاك ترفي- إذا كنا ندرك هـذا فقد نبه إليه القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا، معبرا عن الفائض الاقتصادي باصطلاح العفو أو الفضل، [ ص: 45 ] واعتبر التبذير سفها والترف إجراما، ودعا إلى صرف كل ما زاد عن الحاجة أو الكفاية بغير سرف أو ترف في سبيل الله، أي في مصالح المجتمع وتنميته.

من هـنا فقد وضع القرآن الكريم منذ البداية حكام المسلمين وفقهاءهم، والشعوب المسلمة، على الطريق الصحيح لتحقيق ذاتها وتنميتها ليكونوا بحق كما أراد الله لهم خلفاء في أرضه، ولقد تحقق للمسلمين الأوائل تقدمهم يوم التزموا بذلك الهدي القرآني، وانتكسوا يوم حادوا عنه.

ولذلك لا نعجب أيضا أن كانت أوائل المؤلفات الاقتصادية العالمية في مجال التنمية الاقتصادية، هـي لكتاب مسلمين سبقوا الكتاب الأجانب بعدة قرون، ونخص بالذكر العلامة ابن خلدون الذي عالج مختلف قضايا التنمية الاقتصادية في مقدمته المشهورة سنة 784هـ تحت عنوان " الحضارة وكيفية تحقيقها " .

ثم هـناك كتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة 182هـ، يعتبر قمة في بحوث التنمية الاقتصادية، رغم أنه أصلا للخليفة هـارون الرشيد لتنظيم الخراج، ونجد كذلك الفقيه الدلجي في كتابه " الفلاكة والمفلوكون " أي الفقر والفقراء، يعرض في القرن التاسع الهجري لقضية الفقر، أو بتعبير آخر لقضية التنمية الاقتصادية وذلك بتفصيل وإحاطة وعمق نادر في مقياس زمانه. [ ص: 46 ] لكننا نريد أن نشير هـنا إلى أن النظرية الإسلامية للتنمية لما تكتب بعد كما هـو الشأن بالنسبة للرأسمالية أو الماركسية ، وذلك يرجع إلى أسباب تاريخية وحضارية معاصرة تتلخص في تخلف المجتمعات الإسلامية وتبعيتها للحضارة الأوروبية بشقيها الليبرالي أو الاشتراكي . ولكن الحقل ليس جدبا. ففي تجربة البنوك الإسلامية من جانب، وفي تجربة المؤسسات الإسلامية في عدة بقاع من العالم، بالإضافة إلى كتابات المفكرين والباحثين الإسلاميين ما يشكل نباتات متفرقة يمكن جمعها في شكل إبداعي جديد في بستان واحد يقدم لنا نظرية إسلامية للتنمية.

وفيما يلي نعرض لبعض المفاهيم الأساسية التي تبلورت بوضوح في هـذا المجال والتي نرى أن إدراكها وفهمها ضروري لفهم مختلف جوانب التنمية الإسلامية. وهنا نرى من الضروري التعرض للمشكلة الاقتصادية عموما -كما يراها الإسلام- ثم نعرض لقضية الإنتاج، والهدف الذي يجب أن يسعى إلى تحقيقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية