التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي

عبد الحق الشكيري

صفحة جزء
أولا: دور الملكية الخاصة في التنمية الإسلامية

ترسخ قواعد الإسلام بصفة عامة قيم وسلوك المسلمين ليصحبوا منتجين، ومن ثم تصبح التنمية الإسلامية محصلة تربية إسلامية بالمعنى الشامل للتربية، ويكفي تأمل آيات القرآن الكريم في أمر المسلمين بالانتشار في الأرض، والمشي في مناكبها والأكل من رزق الله، والأمر المباشر بالعمل في قوله تعالى: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) [التوبة:105]، والسنة الشريفة تحث على المبادئ العامة التي ترسخ السلوك والقيم التي تخدم التنمية، وهذه النماذج من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدعو إلى ذلك.

( ما من مسلم غرس غرسا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة ) . ( ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) ( إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها، فإن له بذلك أجرا ) . ( من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له ) إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصوم، ولكن يكفرها السعي على المعيشة. [ ص: 83 ]

على هـذا الأساس اعترف الإسلام بالملكية الفردية باعتبارها وسيلة إنمائية، ووضع النظم والقوانين التي تحميها من المعاشين والغاصبين، ووضع العقوبات الرادعة الشديدة لكل من يتعدى على ملكية غيره. ومن ناحية أخرى فهي مرتبطة كل الارتباط بالشريعة وأهدافها، فلا يجوز أن يستهدف في استعماله لما يملكه إلا ما تهدف إليه الشريعة في تشريعها للأحكام. فإذا لم يحسن الفرد استخدام هـذا المال استثمارا أو إنفاقا في مصلحته ومصلحة الجماعة، فإن شرعية التصرف بالملكية تتوقف بالحجر، وقد عبر عن ذلك في مجال إحياء الموات (استصلاح الأرض الميتة وتعميرها بالزرع أو الغرس أو البناء) أصدق تعبير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال لبلال وقد أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم أرض العقيق: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقطعك لتحجز عن الناس، وإنما أقطعك لتعمل، فخذ ما قدرت على عمارته، ورد الباقي " .

لهذا نهى الإسلام بشدة عن اكتناز المال وحبسه عن الإنتاج والتداول بقوله تعالى: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) * ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) [التوبة:34، 35]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من جمع دينارا أو تبرا أو فضة ولا ينفق في سبيل الله، فهو كنز يكوى به يوم القيامة >[1] [ ص: 84 ]

ثم إن الإسلام نهى بشدة بالغة عن صرف المال بغير حق في ترف أو سفه، حتى إنه وصف المترفين بالمجرمين بقوله تعالى: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) [هود:116]، فالترفع والبذخ تصرف بالمال في غير محله، فهو يثير الحقد والبغضاء بين الناس. وقد ربط الإسلام بين الترف والفساد فقال تعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) [الإسراء:16]. وإن كثرة المترفين في بلد من البلاد أو أمة من الأمم لا بد أن تؤدي إلى الهلاك والفساد؛ لأن الترف يؤدي إلى الفراغ، وهو طاقة، وهذه الطاقة والقوة مع الفراغ يدفعان الفرد إلى طرق الفساد والرذيلة، وعندما تنتشر الرذيلة في أمة من الأمم، فقد كتبت على نفسها الفناء والدمار، قال تعالى: ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ) [القصص:58]. ولذلك حرم الإسلام لبس الحرير والذهب على الرجال؛ لأنه دليل البطر والترف، كما أنه صرف للأموال بطريقة لا تحقق أية مصلحة للأمة إن لم تؤد إلى الميوعة والفساد. ولكن هـذا لا يعني أن الإسلام يريد من الفرد المسلم، أن يقتر على نفسه، وأن يعيش عيشة الشظف والمشقة، فقد روى الأحوص الجشمي عن أبيه ( قال: " رآني النبي صلى الله عليه وسلم وعلي أطمار >[2] ، فقال: هـل لك من ) [ ص: 85 ] ( مال؟ قلت نعم: قال: من أي المال؟ قلت: من كل قد آتاني الله، من الشاء والإبل، قال: إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته وكرامته عليك ) >[3]

وهكذا فقد قيد الإسلام الملكية الفردية بقيود كثيرة، حتى ليظن الناظر أن الملكية في الإسلام ملكية جماعية، وهي ليست ملكية جماعية؛ لأن الإسلام قد أقر الملكية الفردية، وإنما هـي ذات طبيعة مزدوجة بين الفردية والجماعية؛ فهي فردية من جهة، وجماعية من جهة أخرى، ويحق لصاحبها أن يتصرف فيها ضمن حدود وقيود لا يجوز له أن يتعداها.

ولو رجعنا إلى الآيات القرآنية لوجدنا هـذه المفاهيم واضحة فيها، فإننا نرى بعض الآيات القرآنية تضيف الملكية إلى الله أو إلى الجماعة، بينما تذهب آيات أخرى إلى إضافتها إلى الأفراد. فالآيات التي تنسب الملكية إلى الله كثيرة نذكر منها قوله تعالى: ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ) [المائدة:17]، ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) [الحديد:7]، ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) [النور:33]. وفي الطرف الآخر نجد أن هـناك آيات تنسب الملكية إلى الأفراد، قال تعالى: ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [البقرة:188]، [ ص: 86 ]

( خذ من أموالهم صدقة ) (التوبة:103]، ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) [الذريات:19]. وقد علل الدكتور عبد الله العربي هـذا الازدواج في نسبة الأموال إلى أسباب ثلاثة: >[4] الأول: هـو أن إضافة ملكية المال إلى الخالق ضمان وجداني لتوجيه المال إلى نفع العباد؛ أي توجيهه لتحقيق أهداف التنمية الإسلامية، وأن إضافة ملكية المال إلى الأفراد ضمان لتوجيه المالك إلى الانتفاع بما يملكه من مال، في الحدود التي شرعها الله، أي في حدود عدم الإضرار بمصالح الآخرين. الثاني: هـو أن الإسلام دين المسئولية، قال تعالى: ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ]المدثر:38]. ولا يقبل الإسلام أن تكون مسئولية البشر عن المال الذي سخره الله لهم مسئولية غير محدودة، لذلك عمد إلى إقرار الملكية الفردية ليسأل كل فرد عن حق الجماعة في المال الذي بين يديه، وجعل ولي الأمر مسئولا عن حق الجماعة في أموال الأفراد. الثالث: أن الإسلام دين الفطرة، وفطرة الإنسان تتوق إلى التملك، لذلك عمد الإسلام إلى ربط المال بملكية الأفراد واحتيازهم، حتى تنطلق غريزتهم، ويندفع نشاطهم إلى استثمار المال الذي في حوزتهم. [ ص: 87 ] وهكذا يتبين لنا أن طبيعة الملكية الخاصة في الإسلام هـي طبيعة جماعية؛ تهدف إلى مصلحة الجماعة كما تهدف إلى مصلحة الفرد. بعبارة أخرىأنه يتعين على الملكية الخاصة أن تسعى إلى تحقيق أهداف التنمية الإسلامية في جوانبها المادية من ناحية زيادة الإنتاج وتنمية الثروة العامة، كما في جوانبها المعنوية من ناحية عدم الاستغلال، وتحقيق العدالة الاجتماعية. لأجل ذلك رتب الإسلام حقوقا على المالك أثناء تصرفه في ملكيته يراد بها مصلحة الجماعة، وعلى المالك أن يقوم بهذه الحقوق؛ لأنها حقوق مرتبطة بوجود الملكية. ولا شك أن أداء هـذه الحقوق إلى مستحقيها سوف يؤدي إلى تحقيق التنمية في أسمى معانيها. فإذا امتنع المالك عن القيام بهذه الحقوق، فإنه يحق لولي الأمر أن يتدخل في هـذه الملكية، ويفرض على المالك أن يراعي حقوق الجماعة في ملكيته.

التالي السابق


الخدمات العلمية