التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي

عبد الحق الشكيري

صفحة جزء
ثانيا: دور الدولة الإسلامية في تحقيق التنمية

لا تقتصر وظيفة الدولة في المنهج الإسلامي على حفظ الأمن في الداخل والدفاع عن الوطن في الخارج كما تدعو إلى ذلك الأصول الفكرية للمذهب الرأسمالي ، بل تتعدى ذلك إلى بعض الأعمال المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

فالدولة في الإسلام مسئولة عن تحقيق التنمية وضمان معيشة أفراد المجتمع الإسلامي ضمانا كاملا، وتقوم بهذه المهمة على مرحلتين:

في المرحلة الأولى تهيئ الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة في النشاط الاقتصادي المثمر، ليعيش على أساس عمله، وفي هـذا المعنى " يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم " .

وتقوم الدولة بتحقيق هـذا المبدأ عن طريق إنشائها للمرافق العامة التي يعزف الأفراد عن القيام بها؛ لأنها لا تدر لهم ربحا مباشرا، كتعبيد الطرق، وإنشاء السدود والموانئ وغيرها، كما يجب على الدولة أن تتولى إنشاء المشاريع الصناعية الكبرى التي تتطلب رءوس أموال كبيرة يعجز الأفراد عن توفيرها، فهذه المرافق والمشاريع تساهم مساهمة كبيرة في تحقيق [ ص: 97 ] التنمية الإسلامية من ناحية زيادة ثروة الأمة، وإشراك جميع أفراد المجتمع في الثروة العامة.

ومن ناحية أخرى يجب على الدولة الإسلامية أن تقوم بتشجيع الزراعة والصناعة، وأن تعطي المزارعين وأرباب الصناعة أموالا يقومون بها على زراعة أرضهم، وإقامة صناعاتهم، فكثيرا ما كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يمنح المزارعين الأرض ليقوموا بزراعتها والاستفادة منها، حتى لا تبقى بدون زراعة، وهذا ما نراه في رواية أبي عبيد بن الحكم عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى أحد ولاته: " انظر ما قبلك من أرض الصافية، فأعطها بالمزارعة بالنصف، وما لم تزرع فأعطها بالثلث، فإن لم تزرع فأعطها حتى تبلغ العشر، فإن لم تزرع فامنحها، فإن لم تزرع فأنفق عليها من بيت مال المسلمين " >[1]

المرحلة الثانية وهي ما إذا كان الفرد عاجزا عن العمل، أو لا يكسب معيشته كسبا كاملا، فإن الدولة تطبق مبدأ الضمان الاجتماعي عن طريق تهيئة المال الكافي لسد حاجات الفرد، وتوفير حد معين من المعيشة له.

وقد تعرض الفقهاء لحق الفقراء في بيت المال حين لا يجدون من ينفق عليهم، وذكر ذلك الكاساني في " بدائعه " عندما تحدث عن مصارف بيت المال فقال: " وأما النوع الرابع فيصرف إلى دواء الفقراء والمرضى [ ص: 98 ] وعلاجهم، وإلى أكفان الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته، وإلى نفقة من هـو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه نفقته، ونحو ذلك، وعلى الإمام صرف هـذه الحقوق إلى مستحقيها >[2]

ولا خلاف بين الفقهاء في مسئولية الدولة عن الفقراء، وكتب الفقه مليئة بالأدلة والشواهد التي تؤكد هـذه المسئولية.

وإذا كانت التنمية تهدف إلى الارتفاع بالمستوى المادي والمعنوي لعموم الناس، فقد حرص الإسلام أن يحقق للمجتمع الإسلامي المستوى الجيد الذي يكفل لأفراد هـذا المجتمع كفايتهم، وهذه الكفاية لا تقتصر على الطعام والشراب، بل غايتهم أن تحقق الرفاهية للناس جميعا، ونستدل على هـذا بما رواه الليث بن سعد ، أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كتب إلى ولاته: " أن اقضوا عن الغارمين. فكتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث. فكتب إليه عمر: إنه لا بد للمرء من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته، نعم فاقضوا عنه فإنه غارم >[3] [ ص: 99 ]

وقد أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصراحة مسئولية الدولة عن الفقراء والعجزة، روى أبو هـريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ( قال: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا ) >[4] . وقد فسر ذلك أبو عبيد فقال: " الكل عندنا كل عيل، والذرية منهم " >[5]

ثم فرض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العطاء لكل مولود يولد في الإسلام، سواء أكان فقيرا أم غنيا >[6] ، وكان قبل ذلك لا يفرض إلا للأطفال المفطومين، فأصبح الناس يتعجلون فطام أبنائهم لينالوا العطاء، فأمر مناديا ينادي بألا تعجلوا أولادكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.

وروي " عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن امرأة كانت تدخل عليهم، ففقدوها يوما، فقال لأهله، مالي لا أرى فلانة، فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين ولدت الليلة غلاما، فأرسل إليها خمسين درهما وشقيقة سينلانية (ثوبا فضفاضا) وقال لها: هـذا عطاء ابنك، وهذه كسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة " >[7] [ ص: 100 ]

وهذا هـو نظام التعويض العائلي الذي تعرفه الآن بعض البلاد، وقد كان في الإسلام يطبق منذ ذلك الوقت البعيد.

ولا ينسى الإسلام الأرامل من النساء اللاتي يموت أزواجهن، ولا يتركون لهن مالا يعشن به، وكثيرا ما يكون لديهم أطفال رضع. روي عن عمر بن ميمون " قال: شهدت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل أن يطعن بثلاثة أيام وعنده حذيفة وعثمان بن حنيف ، وكان قد استعمل حذيفة على ما سقت دجلة ، واستعمل عثمان على ما سقى الفرات ، فقال: لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلا، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته. قال: فقال عمر: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرن لأمير بعدي " >[8]

ولا يفرق الإسلام في نظرته إلى الفقر بين المسلمين وغير المسلمين؛ لأن غير المسلم يشعر بوطأته كما يشعر بها المسلم، وكلاهما يشترك في الإنسانية، والرحمة أعم من أن تختص بالمسلم دون غيره، وهذا نراه واضحا في عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. روى سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم. وروي عن ابن جرير في قوله تعالى: ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) [الإنسان:8] [ ص: 101 ]

قال: لم يكن الأسير يومئذ إلا من المشركين >[9]

لا تقتصر الدولة على إعطاء الفقير واليتيم والأرملة وغيرهم من الفقراء، بل كثيرا ما تقوم بأعمال أخرى، تكون الغاية منها هـي إسعاف بعض الناس الذين يقفون في مواقف حرجة، ولا يستطيعون أن يتخلصوا منها كالأسرى والغارمين.

ولا تكتفي الدولة الإسلامية بإعطاء الفقراء والعجزة واليتامى والأرامل وغيرهم، بل تقوم بتوزيع الأموال التي في بيت المال على جميع المسلمين دون تفريق بينهم، فتفرض لكل واحد منهم عطاء معينا من الأموال والطعام. روى الحسن بن محمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك مالا عنده، ولا يبيته حتى يقسمه، وعلق ابن سلام على ذلك بأنه إذا جاءه غدوة لم ينتصف النهار حتى يقسمه، وإن جاءه عشية لم يبيته حتى يقسمه. وروى أبو هـريرة - رضي الله عنه - قال: ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كان عندي مثل أحد ذهبا لسرني ألا تمر بي ثالثة وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين يكون علي ) >[10]

لقد كان ولاة المسلمين يعتقدون أن الأموال التي لديهم هـي حق لجميع المسلمين، وقد استمد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هـذا الحكم من [ ص: 102 ] القرآن الكريم، واعتبر أن أموال الفيء هـي ملك لجميع المسلمين، ولذلك رفض تقسيم أراضي العراق بين الفاتحين، وتركها في أيدي أصحابها، وضرب عليها الخراج ليكون فيئا دائما، يوزع بين المسلمين >[11]

ولم يكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يهتم بكمية المال الموجودة لديه، بل كان يقسمها بين الناس، فينظر في بيت المال، فإذا وجد فيه فضلا دعا الناس وأعطاهم هـذا الفضل، روى عطية بن قيس قال: " خطبنا معاوية فقال: إن في بيت مالكم فضلا عن أعطيتكم، وأنا قاسم بينكم ذلك، فإن كان فيه فضل قسمناه بينكم، وإلا فلا عتيبة علينا فيه، فإنه ليس بمالنا، إنما هـو فيء الله الذي أفاءه عليكم " >[12]

وهكذا نلاحظ أن الضمان الاجتماعي في الإسلام لم يكن مقصورا على المحتاجين، بل كان يشمل جميع أفراد المجتمع؛ فالدولة تبدأ أولا بإعطاء الفقراء والمحتاجين، وإذا لم يبق محتاج ولا فقير، فعندئذ يجب على الدولة أن توزع الأموال التي لديها على الناس لترفع من مستواهم المادي؛ لأن الدولة ليست إلا أداة تنفيذ لخدمة الناس، وظيفتها هـي إيصال الحقوق إلى أصحابها، ولذلك لا يجوز للحاكم المسلم أن يبقي أموالا في خزينة الدولة؛ لأنها أموال الناس، فقد كان الولاة يجمعون [ ص: 103 ] الناس كلما وردت إليهم الأموال، فيوزعونها عليهم، ولا يبقون لأنفسهم إلا ما يكفيهم لحياة مماثلة لحياة الناس.

وهذا بلا شك يمثل مبادئ التنمية الإسلامية في أسمى معانيها من ناحية نظرة الإسلام إلى الفرد، ونظرته إلى الدولة، ونظرته إلى الحاكم، فالفرد هـو المالك لجميع الأموال، والدولة هـي التي تسهر على سعادة هـذا الفرد، والحاكم هـو الشخص الذي يقوم بحماية الفرد وخدمته دون أن تكون له أية ميزة مادية أو معنوية عن بقية الناس، ويتناول هـذا الحاكم من بيت المال الذي هـو ملك لجميع المسلمين ما يكفيه لحياته العادية؛ لأنه حبس نفسه لخدمة المسلمين، ومن حبس نفسه لخدمة شيء فيجب أن تكون نفقته على من حبس نفسه لأجلهم. [ ص: 104 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية