التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي

عبد الحق الشكيري

صفحة جزء
ثالثا: دور النظم المالية في تحقيق التنمية الإسلامية:

إذا تتبعنا النظم المالية في الشريعة الإسلامية، كالزكاة والنفقات والصدقات والأوقاف ، فإننا نجد أن هـذه النظم تساهم مساهمة كبيرة في تحقيق التنمية الإسلامية ، وأنها شرعت لإقامة مجتمع تتوازن فيه مصالح الناس، وتتحقق فيه أغراضهم وغاياتهم؛ فالإسلام لم يغفل عن طبيعة النفس البشرية، وما تنزع إليه من شح وبخل، وما ينتج عن ذلك من ظلم وفقر وتفاوت في الثروات، وهو ما يشكل عقبات خطيرة في طريق تحقيق التنمية الاقتصادية الإسلامية . لذلك شرع بعض النظم المالية التي تقف في وجه أطماع الفرد، وتحد من انطلاقه حينما ينحرف عن مصلحة الجماعة، وتقوم بعملية التوازن في المجتمع حتى لا يطغى فرد على فرد، ولا تطغى فئة على فئة، ولا تتركز الثروة في يد دون أخرى.

فالتنمية الإسلامية لا تستهدف تحقيق عدالة اقتصادية فحسب، بل إن غايتها أيضا هـي إيجاد عدالة إنسانية تنعم فيها البشرية كلها بالخير، دون تحقيق مصلحة فئة على حساب فئة أخرى؛ لأن جميع الناس متساوون في الخلق، متساوون في الحقوق. [ ص: 105 ]

وقد فرض الإسلام على الأغنياء والموسرين واجبات مالية لصالح الفقراء والمعدمين، وفرض على الأموال بعض الحقوق التي تدفع للفقراء، أو تدفع للدولة لتقضي بها مصالحها وتكفل لها وجودها، وأقام الروابط الوثيقة بين أفراد المجتمع، وجعل التكافل المالي شريعة مرعية بينهم، دون أن يربطه بإيجاب من الدولة أو إيعاز منها، بل جعل هـذه الحقوق مترتبة على أصحابها دون حاجة إلى صدور قرار أو إقامة دعوى.

ومن دعائم هـذا التكافل الزكاة ونظام النفقات، وسائر قوانين التكافل الاجتماعي ، وقد كانت هـذه النظم ذات أهمية كبيرة في ربط المجتمع بعضه ببعض بروابط الحب والإخاء، إذ استطاعت أن تقيم مجتمعا صالحا وأن تقضي على الفقر والحاجة قبل أن تظهر الدعوات الاشتراكية في العالم.

ولم يكتف الإسلام بذلك، بل أوجب على الفرد أن يدفع إلى الفقراء والمحتاجين قدرا معينا من المال عند كل مخالفة للأوامر الدينية، وهذا القدر هـو المعروف بالكفارات ، وقد ربط بذلك بين التصرفات الفردية للإنسان والحاجات الاجتماعية للأمة، وجعل إعطاء الفقير المال وإطعامه الطعام كفارة عن الذنوب.

يضاف إلى هـذا كله أن الإسلام قد فتح الأبواب للأعمال الخيرية، ووعد الفاعلين للخير بالأجر والمثوبة عند الله، فأباح للفرد أن يوصي بجزء من أمواله يرصد بعد موته لوجوه البر والإحسان، وسمح له في [ ص: 106 ] حياته أن يقف بعض أمواله في وجوه البر والإحسان، وقد كانت الوصايا والأوقاف ذات أثر كبير في تاريخنا الإسلامي، إذ استطاعت أن تمول المؤسسات الخيرية والعلمية والدينية خلال تاريخنا الطويل، فكانت المدارس والمساجد والمؤسسات الخيرية قائمة في بلادنا قبل أن تشعر الدولة بواجبها في تمويل وإقامة هـذه المؤسسات. ونذكر فيما يلي بعضا من هـذه النظم بشكل موجز فنبين أهميتها ونذكر آثارها على التنمية الاقتصادية. [ ص: 107 ] أنواع النظم المالية التي تساهم في تحقيق التنمية وخدمة الجماعة لو رجعنا إلى هـذه النظم لوجدناها كثيرة، وسوف نعرض لأهمها فنتناول أولا الضرائب المالية المفروضة على المسلمين وتشمل: الزكاة، وصدقة الفطر، ثم الضرائب المفروضة على غير المسلمين، كالخراج والجزية. ونعرض ثالثا للعقوبات المالية المفروضة لمصلحة الفقراء، وأخيرا نتحدث عن الأعمال الخيرية التي توجه لخدمة الجماعة.

الحقوق المالية المفروضة على المسلمين 1- الزكاة وهي الصدقة المفروضة على الأموال، وتعتبر الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد حث عليها القرآن الكريم في أكثر من سبعين موضعا، قرنها في أكثر الأحيان مع الصلاة، وهي عبادة دينية وواجب اجتماعي في آن واحد. وقد عرفها معظم الفقهاء بأنها تكليف مالي يتعلق بالمال من غير نظر إلى شخصية المالك، سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وتؤخذ من رءوس الأموال ومن الغلات بنسب محددة. وتؤخذ الزكاة ممن ملكوا نصابا وحال عليه الحول، فتدفع إلى الفقراء والمحتاجين حقا معلوما لهم، وتقوم الدولة على تنفيذ هـذا النظام وجباية [ ص: 108 ] تلك الأموال لتوزيعها على مستحقيها، بالطريق الذي يحفظ للمسلم مكانته، وللمجتمع الإسلامي توازنه، حتى يعيش الجميع تحت ظل الإسلام في سعادة ورخاء.

ولقد استطاعت هـذه الصدقة المفروضة أن تساهم مساهمة فعالة في القضاء على مشكلة الفقر التي تعتبر أكبر تحد في وجه التنمية، وهي المشكلة التي واجهت البشرية منذ أقدم العصور، وحاولت التقليل من خطرها، ولا تزال تعانيها المجتمعات الحديثة وتحاول القضاء عليها. ولعل الصراع الذي يدور في العالم اليوم يعود إلى وجود هـذه المشكلة، وإلى الطريقة التي يمكن بها معالجتها.

وتذهب النظم الرأسمالية إلى الاعتماد على فكرة الإحسان الفردي الذي يقدم إلى الفقراء مساعدة لهم، ويدفعه الغني عن رضاه واختياره، في حين تذهب النظم الاشتراكية إلى مصادرة أموال الأغنياء لحساب الدولة، ثم تتولى الدولة بعد ذلك معالجة هـذه المشكلة.

وقد جاءت الديانات السماوية منذ فجر التاريخ فحاولت علاج هـذه المشكلة، وشجعت على فكرة الإحسان الذي يقوم به الغني تجاه الفقير منحة منه وفضلا، ولكن لم تستطع هـذه الفكرة أن تعالج المشكلة؛ لأنها تقوم أولا على الاختيار، وقليل من الناس هـم أولئك الذين يندفعون إلى فعل الخير حبا في الخير، ويتنازلون عن قسط من أموالهم للفقراء. [ ص: 109 ]

ولم تكن الدولة قادرة على التدخل لمصلحة الفقراء، إذ لم تكن تمتلك الحق في إرغام الغني على التنازل عن قسط من أمواله لصالح الفقير، وكانت نتيجة ذلك أن تفاقمت الأزمة وانتشر الفقر في كل مكان، وأصبح الفقراء يتضررون من الألم والجوع.

ولما جاء الإسلام وفرض الزكاة كان ذلك تغييرا في تاريخ البشرية، إذ انتقل يومئذ الفقراء من مرحلة إلى مرحلة؛ فبعد أن كانوا يعتمدون على الإحسان الذي يقدم إليهم والذي قد يرافقه الاستجداء، أصبحوا يشاركون الأغنياء في أموالهم، وأصبحت لهم حصة في تلك الأموال تقوم الدولة بجبايتها لا منة من الأغنياء ولا إحسانا، وإنما حق معلوم للسائل والمحروم، ولما امتنع بعض المسلمين عن دفع هـذا الحق لأربابه، تدخلت الدولة لإرغامهم على دفعه، فحاربتهم بالسيف، واعتبرتهم خارجين عن الإسلام، وسمتهم بالمرتدين .

ويحق للفقراء في كل مكان في العالم أن يعتزوا بهذا اليوم العظيم، وأن يعتبروه يوما خالدا؛ لأنه تقررت فيه حقوقهم، فأصبحوا شركاء للأغنياء، بجزء معلوم من رءوس أموالهم، يتلقونه من الدولة التي تقوم بجبايته وتوزيعه عليهم وفقا لحاجتهم.

وعندما التزم المسلمون بهذا الحق عاش المجتمع الإسلامي خلال التاريخ في رخاء، وعاش الفقراء في رحاب الإسلام معززين مكرمين، يتناولون حقوقهم كاملة من أموال الأغنياء، وتسهر الدولة على تنفيذ هـذا [ ص: 110 ] النظام، دون أن يكلفوا أنفسهم مهانة الاستجداء ومذلة الحاجة.

ولو حاولنا تطبيق نظام الزكاة وفقا للشريعة الإسلامية لكنا قد قطعنا شوطا كبيرا في طريق تحقيق التنمية الاقتصادية الإسلامية ، ولاستطعنا أن نبني مجتمعا صالحا على أسس متينة من العدالة والكفاية، ولتمكنا من أن نقدم للبشرية نموذجا مثاليا للمجتمعات الصالحة التي تقوم على الحب والتعاون والإخاء والسلام.

2- زكاة الفطر وهي الصدقة المفروضة على المسلمين كل عام في وقت معلوم وبقدر معلوم. ( روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، الأنثى والذكر، الصغير والكبير من المسلمين )

وقد اختلف الفقهاء في حكم زكاة الفطر، فذهب الجمهور إلى أنها فرض، واستدلوا بالأحاديث الواردة في ذلك >[1]

وتجب زكاة الفطر على كل مسلم ومسلمة، سواء كان صغيرا أو كبيرا؛ لأنها عبادة، والكافر ليس أهلا للعبادة. وينبغي على المسلم أن يخرج الزكاة عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم من أولاده الفقراء وزوجته. [ ص: 111 ]

ولم يفرق الفقهاء بين الغني والفقير في وجوب هـذه الصدقة، بل أوجبوها على الجميع؛ لأنها تجب عن الأبدان لا عن الأموال. وقد شرطوا لذلك أن يكون الدافع لها مالكا لقوت يومه؛ لأن من لا يملك قوت يومه لا يستطيع أن يدفعها. وتدفع هـذه الزكاة إلى فقراء المسلمين دون غيرهم، ( لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أغنوهم عن السؤال في هـذا اليوم ) ، وقال أبو حنيفة : يجوز دفعها إلى أهل الذمة؛ لأنها تختلف عن زكاة الأموال. الضرائب المفروضة على غير المسلمين رأينا عند بحثنا في الزكاة المفروضة على المسلمين أنها عبادة، ولما كانت العبادة لا تجوز على غير المسلم، فقد أوجبت الشريعة عليهم ضرائب مالية تختلف عن الزكوات المفروضة على المسلمين؛ حتى يساهموا في موارد الدولة لقاء الدفاع عنهم، وهذا هـو المراد بالجزية . أما الخراج فهو الضريبة المفروضة على الأراضي التي افتتحت عنوة ثم تركها المسلمون في أيدي أصحابها الأصليين، على أن يدفعوا عنها ضريبة معينة سميت بالخراج. 1- الخراج الخراج هـو ما وضع على الأرض من حقوق تؤدى عنها، وهو في لغة العرب: اسم للكراء والغلة، ومنه ( قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الخراج بالضمان ) >[2] [ ص: 112 ] وقد قسم الماوردي الأراضي إلى أربعة أقسام:

الأول: الأراضي التي قام المسلمون بإحيائها، ويجب فيها العشر، والمراد بهذه الأراضي: الأراضي الموات التي لم تستصلح بزرع أو غرس أوبناء، وليست مملوكة لأحد.

الثاني: الأراضي التي أسلم عليها أهلها، وحكمها أنها تبقى في أيدي أصحابها ويدفعون عنها العشر عند الشافعي .

الثالث: الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وقهرا، وقد ذهب الشافعي إلى أنها تعتبر غنيمة، وحكمها حكم الغنائم. وقال مالك : يجب أن تبقى وقفا للمسلمين على أن يدفع أصحابها عنها خراجا ينتفع به جميع المسلمين، وهذا هـو الرأي الذي عمل به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مشكلة أراضي العراق والشام ومصر .

الرابع: الأراضي التي صالح المسلمون عليها أهلها وهي على قسمين:

(أ) ما جلا عنها أهلها حتى خلصت للمسلمين بغير قتال، وعندئذ تكون وقفا على مصالح المسلمين، ويضرب عليها الخراج ، ولا يجوز بيع رقبتها لأنها موقوفة.

(ب) ما أقام فيها أهلها بصلح، وعندئذ يدفعون عنها خراجا معلوما أيضا >[3] [ ص: 113 ]

وإذا كانت الأرض خراجية فلا تخرج عن ذلك ولو أسلم أهلها؛ لأنها ملك لجميع المسلمين، روى يحيى بن آدم " قال: أسلم دهقان من أهل عين التمر ، فقال له علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : " أما جزية رأسك فنرفعها، وأما أرضك فللمسلمين، فإن شئت فرضنا لك، وإن شئت جعلناك قهرمانا لنا، فما أخرج الله عز وجل من شيء أتيتنا به " . وروى يحيى بن آدم " قال: اشترى عتبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج ، ثم أتى عمر - رضي الله عنه - فأخبره، فقال: ممن اشتريتها؟ قال: من أهلها. قال: فهؤلاء أهلها - للمسلمين - أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا. قال: فاذهب فاطلب مالك حيث وضعته " >[4] ويعتبر الخراج موردا من موارد الدولة، تنفقه الدولة في المشاريع التنموية وفي مصالح المسلمين. 2- الجزية وهي الضريبة المفروضة على الرءوس، وتسقط بالإسلام، بخلاف الخراج، فإنه موضوع على الأراضي ولا يسقط بالإسلام. والجزية مشتقة من الجزاء، إما لأنها مفروضة على الكفار جزاء على كفرهم، أو مفروضة عليهم جزاء الأمان الممنوح لهم >[5] . والأصل فيها قوله تعالى ( (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون [ ص: 114 ] ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [التوبة:29]. وقد ذكر الماوردي أن الجزية والخراج يجتمعان في ثلاثة أوجه ويفترقان في ثلاثة؛ فالأوجه التي يجتمعان فيها هـي: أن كلا منهما يؤخذ من الكفار، وأنهما يعتبران من مال الفيء ، ويصرفان في مصارف الفيء، وأنهما يجبيان بحلول الحلول. ويفترقان في أوجه ثلاثة: 1- أن الجزية ثبتت بالنص، وأن الخراج ثبت بالاجتهاد. 2- أن أقل الجزية ثبت بالنص، وأن أكثرها ثبت بالاجتهاد. 3- أن الجزية تؤخذ من الكفار حال الكفر، وتسقط عنهم إذا أسلموا، بخلاف الخراج فإنه يجب على الكفار في حال الكفر، ولا يسقط عنهم بالإسلام >[6] وتصرف هـذه الأموال في مصالح المسلمين، وبالشكل الذي يحقق التنمية الاقتصادية الإسلامية ؛ لأنها داخلة في أموال الفيء. العقوبات المالية المفروضة لمصلحة الفقراء لم يكتف الإسلام بفرض حقوق مالية لمصلحة الفقراء على الأموال والرءوس، بل فرض على الأغنياء أن يدفعوا للفقراء حقوقا مالية، عند [ ص: 115 ] كل مخالفة لأحكام الشريعة في بعض التصرفات الخاصة للتكفير عن تلك الأخطاء، وهذا ما يسمى في الفقه الإسلامي بالكفارات.

والكفارة هـي: العقوبة التي قدرها الشارع عند ارتكاب أمر فيه مخالفة لأمر الله تعالى، وتشمل: كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في رمضان، والقتل الخطأ، والنذر عند العجز عن الوفاء.

فمن حلف على أمر أن يفعله ثم حنث في يمينه، فعليه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ومن أفطر في رمضان بعذر، ولم يكن قادرا على الوفاء، فعليه أن يدفع فدية طعام مسكين عن كل يوم، ومن تعمد الإفطار في رمضان فعليه أن يحرر رقبة، فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا، ومن جعل امرأته كأمه في الحرمة فعليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا.

وهكذا نلاحظ أن الإسلام قد جعل إعتاق العبيد وإطعام المسكين تكفيرا عن كثير من الأخطاء التي يرتكبها الإنسان، كالحنث في اليمين، والإفطار العمد في رمضان، والظهار، ومع أن الحنث والإفطار هـي حقوق الله، ولا علاقة للعباد بها، فقد أراد الإسلام أن يكون إطعام الفقير هـو الكفارة التي يكفر بها الإنسان عن ذنبه.

من هـنا فإن الإسلام يلح على الأغنياء في كل مجال أن يدفعوا للفقراء وأن يكفوهم الحاجة، وهنا لا يحتاج الفقير لأن يتسول على أبواب [ ص: 116 ] الأغنياء، بل الأغنياء هـم الذين يهرعون إلى أبواب الفقراء حتى يدفعوا إليهم حقهم ليحموا أنفسهم من عقاب الله الذي يحل بهم إذا لم يكفروا عن خطيئاتهم.

الأعمال الخيرية التي توجه لخدمة الجماعة

تؤدي الأعمال الخيرية دورا كبيرا في تحقيق التنمية الاقتصادية الإسلامية ، وقد كان لها دور بارز في تاريخنا الإسلامي؛ لأن الإسلام لم يقتصر على فرض الواجبات المالية، وإنما قام بتشجيع الأعمال الخيرية التي يمكن أن يقوم بها أصحاب خدمة للجماعة، يحدوهم الأمل في اكتساب الأجر والمثوبة عند الله.

وهذه الأعمال الخيرية ليست مفروضة على الناس، وإنما يقوم بها بعض الأشخاص الذين يتحسسون آلام الناس، ويلمسون حاجاتهم، فيقومون بوقف بعض أموالهم لخدمة هـؤلاء الناس، لتصرف في مصالحهم، وفيما يعود عليهم بالخير والنفع. وتشمل هـذه الأعمال: الأوقاف الخيرية، والوصايا لوجوه الخير. وسنتحدث عن كل منهما بإيجاز لنبين مدى أهمية هـذين العملين في سد حاجة هـامة من حاجات الجماعة.

1- الأوقاف الخيرية وهي نوع من أنواع صدقات التطوع التي يقوم بها الإنسان بإرادته، فيوجه بذلك جزءا من أمواله إلى وجوه البر والخير التي تخدم مصالح الجماعة، ويمتاز هـذا النوع من الصدقة بصفة [ ص: 117 ] الدوام والاستمرار؛ لأنه يوقف العين، وينفق من المنفعة، والمنفعة دائمة ما دامت العين، ولا يجوز التصرف في العين ببيع أو هـبة أو إرث؛ لأنها موقوفة لصالح الجماعة على الدوام، والتصرف فيها يمنع حق الجماعة.

وقد قسم الفقهاء الوقف إلى قسمين:

(أ) وقف ذري: وهو الوقف الذي يقصد به حفظ ذرية الواقف من الفقر، ويشترط فيه أن ينتهي إلى جهة خير عند انقراض الذرية.

(ب) وقف خيري: وهو الوقف الذي يرصد لجهة خير.

وقد سرد الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - أهم هـذه الأوقاف التي قامت في المجتمع الإسلامي، وعد المصارف التي تصرف فيها وهي: المساجد، والمدارس، والمكتبات العامة، والمستشفيات، والفنادق للمسافرين، والتكايا، والسقايات، والآبار والقنوات، والرباطات للمجاهدين، والسلاح والخيول للجهاد، وتجهيز المقاتلين في الجهاد، وإصلاح الجسور، والطرق العامة، والمقابر، واللقطاء، واليتامى، والمقعدين، والعميان، والعجزة، والمساجين، والقرض الحسن للتجار، والبذار مجانا للفلاحين، وأدوات الزراعة، ودواب الزراعة، والأشجار المثمرة ليأكل منها المارة، وأوقاف أخرى لقراءة القرآن، وللإنفاق على العلماء، ولنحر الأضاحي وإطعام الفقراء في رمضان. [ ص: 118 ]

وهناك أنواع أخرى ذكرها المرحوم الدكتور السباعي تدل على نمو العاطفة الإنسانية التي وصل إليها المجتمع الإسلامي ومنها:

(أ) أوقاف للطب النفسي: " وقد أوقف شخص في طرابلس - لبنان - وقفا للإنفاق على موظفين، ليقوما كل يوم بزيارة المرضى في المستشفيات، ووظيفتهما أن يقفا أمام المريض ويتكلما عنه بشكل مسموع حتى يحس أنه أحسن حالا مما مضى " .

وكان هـناك فرقة للتمثيل الشعبي في مستشفى السلطان قلاوون بالقاهرة للترفيه عن المرضى، كما كانت هـناك فرقة للإنشاد، تقوم بإنشاد الأناشيد الجميلة، للترفيه عن المرضى الذين لا يستطيعون النوم.

(ب) أوقاف للتزويج: وهي أوقاف للإنفاق على الشباب والفتيات الذين بلغوا سن الزواج، ويعجزون عن دفع المهر، فتخصص للإنفاق عليهم وإعطائهم ما يحتاجون إليه من مصاريف.

(ج) وقف الزبادي: وكان موجودا في دمشق، ويعطي قيمة بدل الأواني التي يكسرها الأطفال والخدم إتقاء لغضب الأهل.

(د) وقف للحيوانات المريضة: وهو الوقف المخصص لإطعام الحيوانات الأليفة، كوقف القطط الموجودة في سوق ساروجه في دمشق ، وكان ما يزيد على أربعمائة قطة تعيش فيه >[7] [ ص: 119 ]

وهذه الأوقاف تدلنا على مدى ما بلغ إليه المجتمع الإسلامي من تقدم في الفكر، وسمو في العاطفة، ونبل في الأخلاق، ولا يمكن أن تنتشر في مجتمع هـذا شأنه مشكلة الفقر أو الاستغلال الطبقي؛ لأن الدافع الذي يدفع الإنسان لأن يقف أمواله على هـؤلاء، يمنعه من أن يستغل حاجة محتاج، أو أن يأكل أموال فقير ليزيد في ثروته.

ولا شك أن الوقف نظام عظيم من الأنظمة التي يعتز بها التشريع الإسلامي؛ لأن المالك يتنازل بموجبه عن جزء من أمواله لوجه الله تعالى، لتنفق على المحتاجين، يدفعه إلى ذلك حبه للخير، وعطفه على الفقراء والمساكين.

2- والوصية لوجوه الخير الوصية نظام من الأنظمة الاجتماعية التي يراد بها خدمة المجتمع؛ لأنه يسمح بموجبها للمالك أن يوصي بجزء من أمواله لأقربائه، أو لغيرهم من الناس، أو لجهة خيرية على أن تدفع إليهم بعد وفاتهم.

وكان مقتضى القياس أن الوصية غير جائزة؛ لأنها تمليك يضاف إلى ما بعد الموت، ولما كان الموت مزيلا للملك، فإن هـذا التمليك المضاف إلى ما بعد الموت غير صحيح >[8] ولكن الشارع الحكيم سمح بهذه الوصية لما فيها من مصلحة تعود إلى الموصي نفسه، وإلى أقربائه، [ ص: 120 ] وإلى المجتمع الذي يعيش فيه، فالفائدة التي تعود على الموصي هـي الثواب الذي يناله من الله، والذكر الحسن الذي يكتسبه من الناس. والفائدة التي تعود على الأقرباء هـي: أن معظم الذين ينتفعون بها هـم الأقرباء الذين لا يرثون بمقتضى قانون الإرث في الإسلام. أما الفائدة التي تعود على المجتمع فهي: أن الوصية باب من أبواب الإنفاق على وجوه الخير، كالوصية للفقراء والمساكين واليتامى والمقعدين، والوصية لبناء المساجد والمستشفيات والمدارس، وغير ذلك.

وقد قسم الفقهاء حكم الوصية خمسة أقسام:

(أ) وصية واجبة: وهي الوصية بما وجب في ذمة الموصي من حقوق الله أو حقوق العباد كالوصية بإخراج الزكاة والكفارات وأداء الديون ورد الودائع.

(ب) وصية مندوبة: وهي الوصية التي يراد بها الطاعة والثواب، وتوجه إلى وجوه الخير، فينفق منها على الفقراء والمساكين والمؤسسات الخيرية والأقرباء الذين لا يرثون.

(ج) وصية مباحة: وهي الوصية التي يقصد بها الثواب كالوصية للأصدقاء الأغنياء.

(د) وصية مكروهة: وهي الوصية للإنفاق على التقاليد التي لا تعتبر إسلامية. [ ص: 121 ]

(ه) وصية محرمة: وهي الوصية التي ينفق منها على الأمور المحرمة، كالوصية بتوزيع الخمر على الناس، والوصية للمشروعات المنافية للأخلاق >[9]

والغاية من الوصية هـي توزيع الأموال بين الوارثين وغيرهم، حتى لا تكون الأموال مكدسة في طبقة دون طبقة، وتوجه إلى الفقراء من الأقربين أو غيرهم.

وقد كان الإسلام رحيما عندما حدد الوصية الجائزة بألا تزيد على الثلث؛ لأنه كما يرعى مصالح الموصى لهم يرعى كذلك مصالح الوارثين، وهذا واضح من ( قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - حينما عاده في مرضه: " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) . ولذلك قال الفقهاء: إن الوصية مستحبة من طرف الأغنياء دون الفقراء، وذكر الله تعالى في قوله: ( إن ترك خيرا ) والخير هـنا هـو المال، واختلفوا في مقداره، فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الخير هـو المال الكثير. وقال قتادة: الخير ألف دينار فما فوقها >[10]

وهذا يدلنا على أن الوصية المستحبة هـي الوصية التي يخرجها الأغنياء الذين لا تؤثر الوصية على ورثتهم. [ ص: 122 ]

أما الوصية بما زاد على الثلث فذهب المزني - من الشافعية - وأهل الظاهر ، وابن شبرمة ، و الأوزاعي ، أنها باطلة، سواء كان للموصي ورثة أو لم يكن، وذهب الأحناف وجمهور المالكية والشافعية والحنابلة والشيعة الإمامية ، إلى أن الوصية بما زاد على الثلث ليست باطلة، ولكنها متوقفة على إجازة الورثة، فإن أجازوها قبلت، فإن لم يكن للوصي ورثة فهي صحيحة وغير متوقفة على إجازة أحد >[11]

وهكذا نلاحظ أن نظام الوصايا في التشريع الإسلامي يفسح المجال أمام الشخص لتوجيه جزء من أمواله بعد مماته إلى وجوه الخير، وبالشكل الذي يساهم في تنمية المجتمع، بشرط ألا يزيد ذلك على الثلث احتراما لحقوق الوارثين.

وقلما نرى ميتا عبر تاريخنا الإسلامي، لم يوص بجزء من أمواله لإنفاقه على وجوه الخير للفقراء، أو لبناء المساجد أو المستشفيات، وهي سنة مندوب إليها، جديرة بالتشجيع والرعاية.

وهكذا يتبين لنا أن الهدف الذي يهدف إليه الإسلام من وراء تشريعه للأحكام الفقهية هـو: تحقيق العدالة الإنسانية في الأرض في جميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولذلك حرص على تربية الفرد تربية صالحة قويمة، ليكون خلية من خلايا المجتمع الصالح الذي لا يتكون إلا من الأفراد الصالحين. [ ص: 123 ]

فهذه النظم التي عرضناها تقوم بعملية توازن في المجتمع لتحقق مصالح الناس، وتعمل على تحقيق التنمية في أسمى معانيها؛ لأن النفس البشرية جبلت على الشح والبخل، فكانت هـذه النظم هـي الوسيلة التي تحقق ذلك التوازن بين تلك المصالح. [ ص: 124 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية