قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر

الدكتور / زغلول راغب النجار

صفحة جزء
الفصل الثالث موقف العالم من قضية التقدم العلمي والتقني المعاصر

ينقسم عالم اليوم على أساس من التقدم العلمي والتقني إلى أقسام ثلاثة: (1) دول متقدمة علميا وتقنيا وهي التي استطاعت أن تهيئ لنفسها الأعداد الكافية من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية، وأن تقيم المؤسسات اللازمة لذلك، وأن ترسخ قواعدها، وتنظم إنتاجها، مستفيدة في ذلك بالطبيعة التراكمية للمعارف في مثل هـذه المجالات، وبتدافع نتائج البحوث العلمية يوما بعد يوم، فحققت وثبات هـائلة في العلوم وتطبيقاتها، وفي إقامة صناعاتها وزراعتها، ومختلف أنشطتها الاقتصادية والعمرانية، على أسس علمية دقيقة مكنتها من التفوق في الإنتاج وفي تحقيق الرفاهية المادية لمجتمعاتها (الناتج القومي للفرد الواحد 6230 دولارا سنويا) وتطوير الأسلحة اللازمة لها في عملية التسابق الحربي بين الكتل العالمية المتصارعة، ويبلغ نصيب هـذه الدول من مجموع عدد العلماء والمهندسين في العالم أكثر من 87% (حسب بيانات منظمة النماء الاقتصادي التابعة للأمم المتحدة في سنة 1973م) ، بينما يبلغ مجموع تعداد السكان في هـذه الدول حوالي ثمانمائة مليون نسمة في نفس السنة، [ ص: 63 ] وارتفع إلى 1121 مليونا في سنة 1982م. (2) دول نامية عمليا وتقنيا وهي التي تكافح في سبيل تأسيس أطر وقواعد علمية وتقنية لها، متأسية في ذلك بالدول التي سبقتها، ومعتمدة اعتمادا كبيرا عليها، ولكن نظرا لتأخرها في الأخذ بأسباب التقدم العلمي والتقني، ولتباين معدلات النمو بينها وبين الدول المتقدمة (الناتج القومي للفرد الواحد في العام 520 دولارا) فإن الهوة الفاصلة بينهما لا تزال تزداد اتساعا وعمقا يوما بعد يوم، وإن كانت هـنالك نماذج معاصرة لدول استطاعت أن تعبر تلك الفجوة بشيء من النجاح، منها الصين الشعبية، والهند ، وكوريا الجنوبية .

ويبلغ نصيب الدول النامية من عدد العلماء والمهندسين في العالم أقل من 13% (حسب بيانات منظمة النماء الاقتصادي التابعة للأمم المتحدة سنة 1973م) ، بينما يبلغ مجموع تعداد السكان في هـذه الدول ثلاثة آلاف مليون نسمة. كذلك لا يتعدى مجموع طلبة الجامعات والدارسات العليا في الدول النامية نسبة 28.4% من مجموع عدد طلاب الجامعات في العالم، بينما تتخطى هـذه النسبة 71.6% في الدول المتقدمة علميا وتقنيا.

وفي الوقت الذي لا يتعدى فيه إنفاق الدول النامية مجتمعه نسبة 2.9% من مجموع الإنفاق العالمي على البحث العلمي وتطويره، نجد هـذه النسبة تتعدى 97.1% في دول الشمال الغنية. (3) دول متخلفة علميا وتقنيا وهي التي صادفها من الصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما حال دون تمكنها من توفير الأطر والمؤسسات العلمية والتقنية اللازمة لها (الناتج القومي للفرد الواحد في العام 170 دولارا في المتوسط) ، وعليه فإن مجتمعاتها لا تزال تؤثر الحياة البدائية البسيطة، وإن كان ذلك ينأى بها عن المجتمعات المعاصرة يوما بعد يوم. [ ص: 64 ]

وفي كل من هـذه الأقسام الثلاثة يقف الناس من قضية التقدم العلمي والتقني موقفين متعارضين تماما، يرى أولهما في عملية التقدم العلمي والتقني تتويجا لجهود العقل البشري في محاولة فهم الكون وما فيه، وتسخير سننه وظواهره وقوانينه في عمارة الحياة على الأرض، ومن ثم يرى ضرورة مسايرة الركب ودعم عملية التقدم العلمي والتقني للكشف عن المزيد من ثروات الأرض وحسن استخراجها واستثمارها وإدارتها، وتحقيق الانتصار على تقلبات الطبيعة والتحكم في مشاكل البيئة، والنمو في الصناعة والزراعة ومختلف صور الإنتاج الأخرى اللازمة لتمكين الإنسان من عمارة الأرض، وتحقيق الرفاهية في الحياة، وللتشجيع على المزيد من الإبداع في التفكير والاختراع. وحجة أصحاب هـذا الموقف في ذلك ما يعترض إنسان اليوم من مشكلات وتحديات، وما حققه التقدم العلمي والتقني من منجزات في سبيل التغلب عليها ومجابهتها.

ويرى أصحاب الموقف الآخر في التقدم العلمي والتقني المعاصر شبحا مخيفا يهدد البشرية بالفناء ومختلف بيئات الأرض بالتلوث والخراب، ومن ثم يرى ضرورة وقف عجلة التقدم العلمي والتقني، وهجر مختلف منجزاتهما، والعودة بالإنسان مرة أخرى إلى الطبيعة. وحجتهم في ذلك أن النتائج الأساسية لعملية التقدم العلمي والتقني تلك كانت ولا تزال زيادة في بطالة اليد العاملة وفي قلق الإنسان، واضطراب أعصابه، واعتلال صحته، وفقدان رسالته، وضياع ذاته، وزيادة في عبودية الإنسان للآلة، وانجرافه في تيار المادة، وتخليه عن قيمه الروحية، ومثله العليا، وعن محاولة حل مشاكله النفسية والاجتماعية والسياسية المعقدة، وزيادة في تكدس الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية المهلكة، وفي تطوير أجهزة حملها المختلفة، وزيادة في استنزاف موارد الطاقة وغيرها من الثروات الأرضية التي استهلكت – ولا تزال تستهلك – بإسراف مخل جعل مستقبل مخزون العالم من احتياطيها مفلسا، بل مظلما، وزيادة في انتشار الجوع، وندرة الغذاء، وتصاعد معدلات التضخم [ ص: 65 ] والغلاء، وزيادة في إفساد الأرض بصورة يستحيل معها الإصلاح من مثل: تلوث البيئة بالحرارة العالية الناتجة عن العديد من التفاعلات النووية والكيميائية (التلوث الحراري) ، وبالعديد من المركبات الكيميائية المستحدثة، ومخلفات العمليات الصناعية المتنوعة (التلوث الكيميائي) والتفجيرات النووية المعلنة والمستترة، وصور الإشعاع المتباينة (التلوث الإشعاعي) ، ومعدلات الضجيج المتزايدة والناتجة عن الطائرات وغيرها من المحركات التي تفوق سرعاتها سرعة الصوت، وتأثير ذلك كله على الإنسان وصحته وأعصابه، ومختلف مراكز الحس فيه، وعلى بيئته وجميع صور الحياة فيها..!!

وتكفي في ذلك الإشارة إلى أنه من عناصر الأرض التي تفوق المائة بقليل تمكن العلماء من تحضير ما يقارب المليونين من المركبات الكيميائية، منها ما يزيد على ستمائة ألف مركب عبارة عن سموم قاتلة، وهي على الرغم من ذلك تتداول اليوم بكثرة بين الناس، وتدخل في أطعمتهم وأشربتهم، وأدويتهم، وأكسيتهم، ومواد زينتهم، وفي الكثير من مستلزمات حياتهم..!!

كذلك فقد صنع العديد من الأجهزة التي تحتاج في دورانها إلى تيارات كهربائية عالية الجهد، ومن المخاطر المعلومة لذلك: أنه يؤدي إلى صدور إشعاعات متباينة ثبت – بالتجربة – أثرها البالغ على صحة الإنسان (نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الإشعاعات التي تصدر عن كل من أجهزة التليفزيون الملون، وأجهزة الموجات القصيرة "الميكروويف" التي تتداول اليوم بكثرة في وسائل الاتصال الأرضي، وفي العديد من الأجهزة المنزلية وغيرها من مستلزمات الصناعة العصرية) .

أضف إلى ذلك الإسراف المخل في الإنفاق على سباق التسلح (تسعمائة مليار من الدولارات سنويا) وعلى التجسس والتصنت، وغيرها من متطلبات الحروب الباردة والساخنة (والتي تتكلف سنويا مليارات أخرى عديدة من الدولارات) ، وتسخير أحدث المعارف العلمية والتقنية في خدمة ذلك!! [ ص: 66 ]

وكذلك الإنفاق المسرف على العديد من المشاريع العلمية التي لا دافع لها إلا التسابق العسكري بين الكتل المتصارعة، وإن بدت في ظاهرها ذات طابع علمي بحت، وذلك من أمثال: أبحاث الفضاء التي أنفق عليها من المال ما لو أنفق على تعليم الملايين من الأميين البالغين في العالم، أو في تعمير الصحراء واستزراع أراضيها، والكشف عن مدفون ثرواتها، أو في تحلية مياه البحار واستغلال مختلف خيراتها، أو على بحوث الطاقة الشمسية وتطبيقاتها، أو على ذلك كله وغيره من المشاريع الملحة والهامة، لكان له من المردود المادي المباشر على إنسان هـذا العصر، وعلى أجياله القادمة أضعاف أضعاف ما عادت به أبحاث الفضاء.

ولسنا هـنا نقلل من قيمة أبحاث الفضاء وما أدت إليه من كشوف علمية هـائلة، وتطور تقني مذهل، ولكنا نؤكد على ضرورة تحديد الأولويات في مجال البحوث العلمية والتطبيقية، وضرورة التزامها بالجوانب الإنسانية والأخلاقية والروحية، فأي خلق يمكن أن يجيز ترك أكثر من نصف سكان الأرض يتضورون جوعا، ولا يجدون القوت الضروري للقيام بأولادهم، وملايين البشر تعصف موجات الجفاف بهم وبثرواتهم الزراعية والحيوانية، التي هـي ثروة للإنسانية كلها، وأكثر من ثلث تعداد سكان الأرض البالغين يرزح تحت جهل الأمية وظلامها، ثم تنفق آلاف الملايين من الدولارات والروبلات على برامج الفضاء والتسابق في السيطرة عليه، كما ينفق أكثر من تسعمائة مليار من الدولارات سنويا لإنتاج السلاح؟!

هذا كله وكثير غيره مما لا يوفقه حصر، ولا يحصيه عد قد دفع بعدد من مفكري هـذا العصر إلى الوقوف في وجه عملية التطور العلمي والتقني الراهنة ورفضها، ومقاومتها، وإلى دعوة الإنسان للعودة إلى الطبيعة بغير منتجات صناعية معقدة، ولا مركبات تحضيرية ضارة، ولا اعتماد مطلق على الآلة، ولا أجواء ملوثة، ولا أخطار محدقة. واستجابة لذلك النداء قامت بعض المجتمعات في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عدد من الدول الأوروبية بالعودة فعلا إلى الحياة البدائية البسيطة، ورفض كل معطيات التقنية الحديثة، وتحريم مخترعاتها على الرغم من توفر ذلك كله حواليهم..!! [ ص: 67 ]

وهنا تبرز تساؤلات عديدة منها: هـل يجوز لإنسان هـذا العصر أن يلقي بثروته العلمية والتقنية الهائلة وراء ظهره بهذه البساطة وهي حصيلة جهاد البشرية كلها عبر تاريخها الطويل؟ وهل يمكن لمثل هـذه السلبية أن تشكل الرد السليم على سوء استغلال الإنسان لمعطيات التقدم العلمي والتقني؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك فما البديل؟

ما هـو البديل في وقت تعاظمت فيه خطى التقدم العلمي والتقني في شكل قفزات هـائلة ومتلاحقة، تلهث أنفاس المتخصصين في متابعتها، ومحاولة استعيابها، والتنبؤ بآثارها، واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة تلك الآثار، كما تعاظمت الضرورات لملاحقة آثار التقنيات المتعددة القائمة على الإنسان وبيئته، بهدف تحليلها وفهمها للاستفادة بإيجابياتها والتقليل ما أمكن من سلبياتها؟

ما هـو البديل؟ والأمر لم يعد ترفا فكريا، بل ضرورة من ضرورات المحافظة على الإنسان وجنسه من أخطار هـذا المارد الذي انطلق من قمقمه، والذي يعرف باسم التقدم العلمي والتقني، والذي وصل إلى حجم لا بد من احتوائه قبل أن يهلك الأخضر واليابس، ويبيد الحرث والنسل؟

هل هـو مواصلة السير على طريق التقدم العلمي والتقني مع إقامة أجهزة إدارية خاصة لضبط مخاطر تلك العمليات،كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية بإقامة مكتب خاص لتقييم التقنية (تم تأسيسه في سنة 1973م) ، ليقوم بتقديم النصيحة إلى الكونجرس الأمريكي عن آثار وأخطار التقنيات الحديثة، أو تكوين هـيئات محايدة تزود متخذي القرار في كل دولة من دول العالم بالنصيحة الراشدة قبل فوات الفرصة، وتركز على التقنيات المفيدة للمجتمع، وتحذر من تلك التي يمكن أن تكون وبالا عليه؟

هذه قد تبدو وعودا براقة، ولكنها صعبة التحقيق؛ لأن طرائق تقييم التقنية لا [ ص: 68 ] تزال بدائية في الوقت الحاضر، بينما معدلات التقدم التقني متسارعة بصورة قد تصعب متابعتها، ومن هـنا فإن نقاد عملية تقويم التقنية يصرون على أنها لا يمكن أن ترتفع فوق مستوى الحدس والتخمين، بينما يتوقع مؤيدوها انتصارات كبيرة لها خاصة في المجالات التي تكون ظروفها معقدة للغاية، وتتابع الأحداث في مسارات تتعارض مع البداهة والفطرة.

هل يكون البديل هـو رفض كل أسباب التقدم العلمي والتقني وكل معطياتهما، كما فعلت بعض المجتمعات الصغيرة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا ؟

وإذا كانت مثل هـذه المجتمعات تستطيع ذلك فهل يمكن أن تستطيعه دول العالم الثالث بصفة عامة، والدول الإسلامية بصفة خاصة؟ وقد أعطت منتجات التقدم العلمي والتقني للدول الصناعية من أسباب الاستعلاء، ووسائل الهيمنة والتسلط ما يغريها بفرض سلطانها على دول العالم الثالث قاطبة، لإبقائها في سلسلة التبعية المطلقة لها، خاصة تلك الدول التي تفصلها عن دول الشمال خلافات عقائدية وفكرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية