دراسة في البناء الحضاري (محنة المسلم مع حضارة عصره)

الدكتور / محمود محمد سفر

صفحة جزء
تأثير الإعلام على الظاهرة الحضارية

إن وسائل الإعلام في المجتمعات النامية ، تستطيع أن تساعد في الإجابة على هـذا التساؤل، مثلما أنها قادرة على المساهمة في هـذا القهر والقسر بالنسبة للأمة عموما، أو بالنسبة لتسرب حالة نفسية فيها وله بتقليد الغالب والإيمان به.

إن من المشاهد في بلداننا، وجود خليط من النوعين، وكل هـذا يحتاج في اعتقادنا إلى دراسة علمية معمقة، وحسبنا أن نشير هـنا، إلى هـيكلية الظاهرة في محاولة لوضع أسس تطبيق جديد لعلم الاتصال في قضايا الحضارة المعاصرة.

ويمكن إضافة حقيقة أخرى هـي: أن قضية تسرب الحضارات، أو تمازجها، أو تأثير حضارة مسيطرة على أمة مضغوطة كرها أو طوعا، تحدث بنسب متفاوتة، وتعتمد على توافر الظروف لكل وسيلة من وسائل النقل الثلاث التي ذكرناها. فإن كان الإعلام في ذلك المجتمع نشطا، نجد أن طريقة النقل بالاتصال تكون أكثر تأثيرا؛ لأن الإعلام عادة ما يزين للناس حب اقتناء المنتجات الحديثة، في جميع قطاعات المجتمع، في المدن والقرى والنجوع والبدو، كما أنه قادر على أن يحسن لهم الطرائق الجديدة، في أساليب [ ص: 30 ] الحياة ما يرد معها من عادات جديدة تحل " بالإزاحة " محل عادات أخرى تندثر وتزول.

إن التسويق، والإعلام التجاري، والاتصال الجماهيري كل تلك، علوم تصب في علم يرتكز على استمالة النفس البشرية، للاهتمام بمنتج جديد، وكيفية انتشاره بين الناس، وإقبالهم عليه. وإذا كنا الآن أمام ظاهرة الحضارة الضاغطة، والحضارة المضغوطة، وتدفق الأشياء، والأفكار، والعادات عبر الحدود، بين هـذه الحضارة الضاغطة، والمجتمع المضغوط، فما أجدرنا بأن ندرس تلك العلوم، ونبحث في كيفية تأثيرها على استمالة المجتمع المتخلف، لتقليد المجتمع المتقدم، في أشيائه، وأفكاره، وعاداته، على أن تكون الدراسة والبحث، من أجل تقليل تلك التأثيرات، أو تحجيمها، أو وضع قائمة أولويات لها، إن كان ولا بد من الانصياع لها. تلك دعوة مفتوحة نوجهها لشباب الأمة من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية .

لنأخذ لهذا مثلا، من واقع الريف في أي بلد عربي، يعين المهتم على إدراك المشكلة وتحديد أبعادها.

كان الفلاح العربي يأوي إلى فراشه مبكرا ويستيقظ مبكرا؛ ليذهب إلى حقله. ماذا نجد الآن؟ نجده لا ينام إلا قبل الفجر بساعات، ويستيقظ بعد الشمس بساعات؛ ليفقد بذلك انشراح الصدر وبهجة الاستبشار، اللتين تحيطان بالإنسان دائما في بكوره. أثر هـذا بصورة مباشرة ليس فقط على إنتاجية ذلك الفلاح، بل أيضا على تعامله مع الأشياء من حوله، وتعامله مع مجتمعه، وتقبله للأفكار وأسلوب مواجهته لقضايا يومه، ومشكلات معاشه، شكل هـذا كله خسارة كبيرة، له ولمجتمعه.

والحديث بطبيعة الحال هـنا ليس عن الإنتاجية؛ لأن حديثها ذو شجون >[1] [ ص: 31 ]

لكن القول منصب على الظاهرة الحضارية، لهذا أشرنا إلى مثل الفلاح العربي الذي يجلس رابضا أمام التلفزيون كالمسجون، ويظل يسمع ويرى، ويتأثر بالإعلانات التجارية عن منتوجات صنعها مجتمع غير مجتمعه، لمجتمع غير مجتمعه، فهذه خلاطة كهربائية جديدة، وتلك غسالة أوتوماتيكية، تغسل كل شيء وتجعله نظيفا، وغيرها وغيرها، فيصدق ما شاهد، ويسعى جاهدا لاقتناء تلك المنتوجات الاستهلاكية؛ لأنه يريد أن يستبدل بأسلوب حياته هـذا الأسلوب الجديد، الذي يراه في الإعلان، ويتحول بالتالي إلى كيان إنساني آخر؛ لأن أجهزة الإعلام تلح على أذني هـذا الرجل، فيكون انتقالا قسريا أو قهريا فإذا ذهبت الآن مثلا إلى الريف العربي وجدت أن الفلاح يقتني بجانب ماشيته أجهزة حديثة مثل الغسالة، وثلاجة ومطحنة بهارات، وخلاطة وغيرها.

ليس ثمة شكل إذن في أن الإعلام قد فتح لهذا الشخص عالما رحبا للأشياء الزوالية، وجعله يتمادى في استخدامها، برغم، أنه قد لا يحتاجها. ومن المهم هـنا، أن نؤكد حقيقة: إن عالم الأشياء الزوالية ظهر في الغرب مرادفا لحضارة تحكم بقيمها الإنسان الغربي المتحضر ذاته، الذي لا يجد الوقت ليضيعه في طحن البهارات بهاون، فهو مشغول باستثمار وقته في أمور أهم ويترك للمطحنة الأوتوماتيكية القيام بهذه المهمة، إذن فإن المنتوجات الحضارية تلك أتت ضمن معادلة اجتماعية محسوبة، للاستفادة من الوقت، وإنفاقه فيما هـو نافع، ومن ثم لم يكن دور " الأشياء الزوالية " في حياة الإنسان الغربي ترفا، بل هـو ضروري، في حين هـي في حياة الفلاح العربي ترف؛ لأنه ينام قبل الفجر بقليل، ويقوم بعد الشمس بكثير، وفي يقظته يضيع وقته. إن هـذا الفلاح لا يعرف قيمة الوقت، ومن ثم فإنه ليس بحاجة إلى هـذه " الأشياء الزوالية " وقد يكون من الخير أن يدرب يده على الطحن بالهاون.

إن التفاوت بين الطرق الثلاثة للنقل الحضاري، تبدو واضحة في حالة النقل الإشعاعي، فإذا اخترنا عينة من البشر من الذين يرفضون الحضارة [ ص: 32 ] الغربية كلية وإشعاعاتها الفكرية، وينأون بأنفسهم عنها، ويضادون أفكارها وحياتها، ولا يريدون أن يتصلوا بها بسبب من الأسباب، لوجدنا أن هـؤلاء الناس برغم أن الإشعاع الفكري لتلك الحضارة، لم يحدث لهم أثرا فإنهم يستخدمون أدواتها الحضارية. يركبون السيارة، ويستخدمون التليفون، ويملئون بيوتهم بالأجهزة الحديثة، التي تسهل الحياة لهم، فهم برغم رفضهم للحضارة الغربية يستمتعون بمنتوجاتها وأشيائها، ناسين أو متناسين أن الإشعاع لا بد أن يأتي من خلال الفكر الذي لا بد أن يحدث أثره في الرأس أولا، ثم ينتقل إلى السلوك، فهم رفضوا الإشعاع وصموا آذانهم ضده، ولكن برغم ذلك يستخدمون كل شيء من خلال ظاهرة الانتقال بالتوصيل ، أو الانتقال بالحمل من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه.

إن المجتمع الذي يحيط بهم يدفعهم دفعا إلى عملية التقليد، وهذا موضوع حيوي، يحتاج إلى بحث يقضي طالب دكتوراه فيه وقته، كي يدرس بالضبط كيف تنتقل العادات والتقاليد عبر المنتوجات الحضارية من مجتمع ينتجها إلى مجتمع يستهلكها؟ وقد يقوده بحثه إلى أمر آخر هـو : أي صفات الحضارة الغربية أسرع في الانتقال؟ وأهمية الإجابة على هـذا السؤال تظهر عند الحديث عن التعليم والمجتمع، حيث نجد أن الحضارة الضاغطة ساعدت على تدفق أشياء وأشياء، وتدفقت معها نظم حضارية مفيدة، ومعينة لنا في حياتنا، منها نظم التعليم، حيث نقله العالم العربي من الغرب، مصر مثلا: نقلت نظامها التعليمي عن الإنجليز ، والبلاد العربية نقلت عن مصر صورا منه، ثم نقلت بعد ذلك مباشرة من الغرب، فنظامنا التعليمي في كليته وعمومه منقول من الغرب باستثناء نظام التعليم الإسلامي التقليدي، الذي مازال قائما، وهو مجال للحديث، وجدير بالدرس ولكن في وقت آخر. [ ص: 33 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية