في فقه التدين فهما وتنزيلا [الجزء الثاني]

الدكتور / عبد المجيد النجار

صفحة جزء
الفصل الثالث

فقه الإنجاز

تمهيد نقصد بالإنجاز التطبيق الفعلي للأحكام الدينية على واقع الحياة، وهو المرحلة الثالثة من مراحل التدين، ففهم أحكام الدين في حقيقتها الكلية المجردة مرحلة أولى، وصياغة خطة واقعية من تلك الأحكام مرحلة ثانية، وتنزيل تلك الخطة على الواقع بالممارسة الفعلية مرحلة ثالثة، وهي مرحلة الإنجاز.

وتختلف هـذه المراحل الثلاث، عن بعضها في طبيعتها. وقد بينا سابقا وجه الاختلاف بين الفهم، وبين الصياغة، من حيث إن الفهم استيعاب لحقيقة الحكم الديني، والصياغة تهيئة لذلك الحكم ليطبق في واقع معين بمواصفاته المشخصة، وكذلك الأمر بالنسبة للإنجاز، فإنه يختلف عن كل من الفهم والصياغة، من حيث إنه الممارسة الفعلية في السلوك للأحكام، التي وقع فهمها، ثم وقعت صياغتها للتطبيق. [ ص: 100 ]

إن الإنجاز هـو العملية الألصق بالواقع في مشخصاته، والأكثر اتصالا بتفاصيله وجزئياته، وإذا كانت الصياغة كما مر بيانه تنبني على تقدير الواقع وتشخيصه لتكون الأحكام ناجحة فيه، فإن الإنجاز هـو الاحتكاك الفعلي بذلك الواقع، وهن غير التقدير الذهني، الذي تنبني عليه الصياغة، وإن يكن تقديرا مستخلصا من تمثل عياني للحياة الواقعية، وبهذا الاعتبار فإن الاحتكاك الفعلي بواقع الحياة لتطبيق الحكام قد يكشف في كثير من الأحيان عن مشاكل لم يقع تقديرها من قبل عند الصياغة، أو هـي من جنس مالا يمكن تقديره عندها.

إن صياغة الأحكام تأخذ بعين الاعتبار القدر المشترك بين أفراد عديدين من الناس، أو بين عينات مختلفة من الحالات، فتبنى على واقعية ذلك القدر المشترك، ولا يمكن أن تستحدث صياغة لكل فرد بعينه من الناس، أو كل عينة مخصوصة من الحالات، فذلك ليس من غرض الدين، ولا هـو في إمكان المجتهد. ولكن الإنجاز يتعلق بصفة مباشرة بكل فرد مخصوص، وبكل حالة بعينها، وحينئذ فإن بعض الأفراد والحالات قد يند لخصوصية فيه، عن أن تحقق الصياغة المقدرة لنوعه مقصد الدين فيه.

وكذلك فإن للواقع الإنساني منطقا في الحركة والتغير لا ينضبط بصفة قطعية، فالمعطيات الخفية في الإنسان تتدخل أحيانا في [ ص: 101 ] مجريات الواقع، لتغيرها إلى ما هـو غير متوقع، ولتحدث عناصر كمية أو كيفية في نسق الواقع، لم تؤخذ بعين الاعتبار عند تقدير الصياغة، وتصبح هـذه العناصر تمثل مشكلات ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند الإنجاز.

وإذا عدنا إلى المثال الذي أوردناه سابقا لتوضيح العلاقة بين الفهم وبين الصياغة، فإننا نجد فيه ما يوضع العلاقة بين الصياغة وبين الإنجاز أيضا، فالمثال الواقعي الذي يصوغه المهندس المعماري لعمارة ما قد تعترضه عند الإنجاز مشكلات، من خصوصيات المناخ، أو آلات العمل، أو مواد البناء، ما يكون له أثر في عملية الإنجاز نفسها، مما يستلزم أخذها بعين الاعتبار فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للدواء، الذي يعد لمريض ما، بحسب خصوصيات مرضه، فإن المريض قد تطرأ عليه من الأحوال الذاتي أو الخارجية ما يمثل مشكلا في سبيل إنجاز العلاج بذلك الدواء، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في عملية الإنجاز.

إن هـذه الخصوصية في مرحلة الإنجاز، من مراحل التدين، تستلزم فقها خاصا بها، يتميز عن فقه الفهم، وعن فقه الصياغة، وهو فقه يهدف إلى أن يتم تطبيق الأحكام الدينية تطبيقا تتحقق به المصلحة، التي تعد عمودا للفهم، وعمودا للصياغة، ويقوم هـذا الفقه على مراقبة الأحكام في تطبيقها على الأعيان، من حيث ما تثمر [ ص: 102 ] من نفع مقصود لها، أو ما يبور من ثمرها، وعلى ضوء ذلك يقع التصرف بما يضمن ثمرة المصلحة، وما يحول دون بوارها.

ولعل فقه الفتاوى من بين التراث الفقهي الإسلامي، هـو الفقه الذي تبرز فيه جلية القواعد الفقهية للإنجاز، باعتبار أنه فقه يعالج العينات الواقعية للأفراد والحالات، من حيث تطبيق الأحكام الفقهية عليها، وتتناول الفتاوى غالبا حالات تظهر فيها إشكالات في انطباق الصياغة الواقعية عليها عند التطبيق الفعلي، فيتولى المفتي معالجة تلك الإشكالات، بما يمكن أن نسميه بفقه الإنجاز، ونحسب أن فقه الإنجاز الذي جرت عليه الفتاوى لم يحظ بالقدر الكافي من الدراسة والتوضيح والتنظير، ولو وقع ذلك لكان فيه خير كبير لفقه التدين عامة.

ولو تأملنا في واقع المسلمين اليوم، وما تسعى إليه الصحوة الإسلامية من إنجاز للدين في واقع الحياة، لرأينا فقه الإنجاز لا يحظى باهتمام مكافئ لخطره، بل لا يحظى أحيانا حتى بقدر من الوعي بأهميته في ترشيد التدين، وفي غياب الاهتمام الكافي بفقه الإنجاز، والوعي بخطورته تحدث تصرفات كثيرة يحسب أنها إنجازات دينية، تهدف إلى ترقية التدين، ولكنها عند محاكمتها إلى ما تحققه من المصلحة، يتبين أنها لا تحقق من ذلك شيئا، وهي بالتالي لا تسهم في ترقية التدين، وخذ إليك مثلا في ذلك عمل [ ص: 103 ] بعض الجماعات الإسلامية على التطبيق الآلي الفوري للأنموذج الإسلامي، في الحياة، في كل ميدان من ميادينها، رفضا لكل تأجيل أو مرحلية في الإنجاز، وكذلك عمل بعض آخر على التطبيق المصر لبعض الجزئيات والسنن الشخصية، دون أن تتوفر لها الشروط المعنوية والمادية للتطبيق، وذلك مع التغافل عما هـو أكثر أهمية منها من الأحكام الأساسية الواجبة.

إن الحاجة تدعو في الظرف الراهن للمسلمين إلى تنشيط البحث في فقه الإنجاز، بعثا لما في التراث الفقهي الأصولي من ذلك، وإضافة إليه، وإثراء له، بما يتاح من معطيات جديدة، ولعله من المفيد أن ينشط هـذا البحث في المحورين التاليين: شروط الإنجاز، وآداب الإنجاز.

التالي السابق


الخدمات العلمية