أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق

الدكتور / أحمد محمد كنعان

صفحة جزء
مدخل

( الفكرة. العمل. السنة )

.. بعد أن نفخ الله عز وجل من روحه في قبضة الطين، واكتمل خلق آدم في أحسن تقويم، أمر الله ملائكته بالسجود لهذا المخلوق، فسجدوا.. وفي هـذا الجو المهيب من التكريم الرباني، بدأ عهد الإنسان في هـذه الحياة.. ومن رحمة الله عز وجل ، أنه لم يسلم هـذا المخلوق لمصيره الذي بدأ للتو، من غير زاد كاف من المعرفة، التي تعينه على التعايش مع العالم الذي وجد فيه، والذي كان مجهولا تماما بالنسبة له.. فعلمه الأسماء ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هـؤلاء إن كنتم صادقين ) (البقرة: 31) .

* فماذا تعني تلك الأسماء التي تعلمها آدم عن ربه؟

إنها - كما يتفق معظم المفسرين - تعني نوعا من العلم الكلي بطبيعة العالم، الذي سيحيا فيه آدم، وذريته من بعده >[1] .. أو هـي فكرة مجملة عن العالم [ ص: 30 ] لكي يتمكن آدم وذريته من فهم هـذا العالم، والتعامل معه، تعاملا إيجابيا فعالا..

ويتبين لنا من هـذه الإشارة القرآنية في قصة خلق آدم، واستخلافه، وظيفة (الأفكار) في بناء الحضارة الإنسانية.. وقد أثبتت وقائع التاريخ أن أية أمة من الأمم لا بد أن تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة من الأفكار، التي على أساسها تشيد صرح حضارتها.

ويقدم لنا الواقع شواهد عديدة، على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هـو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا السبب نجد المجتمعات تسمو، أو تنحط، أو تبيد، تبعا لطبيعة الأفكار، التي يعتنقها أبناؤها.

.. وحسبنا للتدليل على وظيفة الأفكار في المسيرة الحضارية، أن نذكر، بأن معجزة الإسلام باقية على الدهر، قد تمثلت في كتاب الله الكريم، الذي ضم بين دفتيه مجموعة من الآيات، التي تنطوي كل منها على فكرة أو مجموعة من الأفكار.. وقد استطاع القرآن بهذه الأفكار أن يبدل حياة العرب من حال إلى حال، وأن يصوغ منهم أمة واحدة متآلفة، متراحمة، بعد أن كانوا قبائل متفرقين، يفتك بعضهم ببعض لكن الملاحظة التي تستحق الانتباه هـنا هـي أن الفكرة لا تؤدي وظيفتها في حياة الناس بصورة تلقائية، بل لا بد لها لكي تفعل فعلها من جهد بشري مكافئ، يترجمها إلى فعل، فالفكرة من هـذه الوجهة تشبه (الدليل) الذي ترفقه الشركات الصانعة مع الأدوات والأجهزة التي تصنعها، وتبين فيه مواصفات كل أداة أو جهاز، وطريقة التشغيل.. وغني عن البيان أن الفائدة من هـذا الدليل لا يمكن أن تتحقق بغير ترجمة التعليمات التي فيه إلى أفعال.. فإن قال لك الدليل مثلا: ( صل الجهاز بمصدر التيار الكهربائي ) ثم لم تفعل ذلك، فهل تتوقع أن يعمل الجهاز، وأن ينجز المهمة المرجوة منه؟ [ ص: 31 ] بالطبع لا، وكذلك الفكرة، فهي تظل مجرد خاطر، يجول في الوجدان، حتى يحولها الإنسان إلى فعل. ولكن مع هـذا فإن اجتماع العاملين معا ( الفكرة والفعل) لا يكفي لإخراج الفكرة إلى حيز الواقع، بل لا بد من عامل ثالث مكمل لهما، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي، أو بمعنى آخر أن تكون موافقة لسنة ( قانون ) من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، فقد قدر الله في هـذا الوجود لكل أمر سنة خاصة به، لا يتم إلا من خلالها..

* ونضرب لذلك مثلا الفكرة التي تقول: ( إن الإنسان أصبح اليوم قادرا على الانتقال ما بين أوروبا وأمريكا في غضون ساعات قليلة ) فهذه الفكرة تبدو ممكنة التحقيق من الناحية النظرية، غير أن محاولة تحقيقها بالركوب على حصان مثلا، يجعلها فكرة مستحيلة التنفيذ؛ لأنه ليس في وسع الحصان أن يتحرك بسرعة تكفي لقطع المسافة القصية ما بين قارتي أوروبا وأمريكا في بضع ساعات، إضافة إلى أن البحر يفصل ما بين القارتين، وليست السباحة من طبيعة الحصان.

* ويمكن أن نسوق بالمقابل الفكرة التي تقول: ( إن جيشا ما يمكن أن ينتصر على جيش آخر يفوقه في العتاد والعدد عشرة أضعاف ) فهذه الفكرة تبدو من الناحية النظرية مستحيلة، لولا أن وقائع التاريخ أثبتت حدوث مثل هـذا الانتصار الباهر، بل لقد أكد القرآن الكريم إمكانية وقوع انتصار كهذا وتكراره في صورة سنة مطردة لا تتخلف، ولكن بشروط الآية الكريمة: ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) (الأنفال: 65) .. مما يعني أن سنة انتصار الجيش على جيش أكبر منه وأقوى ممكنة التحقيق، ولكن بعد توفير الشروط التي بينتها الآية [ ص: 32 ] الكريمة >[2] ، وما لم تتحقق هـذه الشروط فإن انتصار الجيش الضعيف يظل ضربا من الخيال أو المستحيل.

ونلاحظ من خلال هـذين المثالين اللذين سقناهما أن الفكرة ذاتها يمكن أن تبدو من الناحية النظرية واقعية أو مستحيلة، إلى أن يجيء التنفيذ العملي الذي يقطع بواقعيتها أو باستحالتها.. مما يعني أن الجهد البشري يتطلب شروطا ثلاثة لكي يكون جهدا ناجحا، وهذه الشروط هـي:

(1) الفكرة..

(2) توافق الفكرة مع سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق..

(3) اقتران ذلك بالعمل..

وانطلاقا من هـذه المقدمة الموجزة، نصل إلى تحديد معلم هـام من معالم الأزمة التي تمر بها اليوم عقلية كثير من المسلمين.. هـذه العقلية التي غدت طافحة بالأفكار النظرية المجردة، ولكنها ما تزال - على الرغم من ذلك - عاجزة عن وضع هـذه الأفكار موضع التنفيذ الفعلي، أو هـي ما تزال مقصرة في تسخير هـذه الأفكار بطريقة واقعية، تجعلها على أكبر قدر من الفعالية.. في حين أن أصول هـذه الأفكار نفسها قد نهضت في زمن من الأزمان بأمتنا العربية، بل [ ص: 33 ] وبالجنس البشري كله نهضة تفوق الخيال

وحين ندقق النظر في أوضاع المسلمين الراهنة، ونستقرئ الوقائع التاريخية التي انتهت بهم إلى التخلف والانحطاط، نجد أن هـذه الأمة ترجع في جزء كبير منها إلى الغموض الذي يسود فكر كثير من المسلمين حول طبيعة السنن، وعلاقتها بالجهد البشري.. فكثير من المسلمين اليوم لا يعيرون مفهوم السنن ما يستحقه من اهتمام، وكثير منهم لا يدركون أصلا مفهوم ( سنة الله في الخلق ) إدراكا صحيحا، فنراهم يرفضون عن وعي، أو غير وعي علاقة ارتباط النتائج بأسبابها؛ لأنهم يظنون أن القول بارتباط النتائج بأسبابها ارتباطا ضروريا يعني الحتمية على الله عز وجل ، ومن ثم يعني تعطيل الإرادة الإلهية

ومن هـنا كانت الأزمة، ونعني بها نسبة النتائج إلى غير أسبابها، وترسيخ الاعتقاد، بأن علينا أن نعمل وليس علينا أن ننظر في النتائج، فكان من نتيجة هـذا الاعتقاد تعطيل دور ( المحاسبة ) التي تعد العين الساهرة، التي تميز بين الخطأ والصواب، وترشد إلى طريقة التصحيح.

وأسارع إلى القول: بأن نظام السنن، أو ارتباط العلة بالمعلول لا يعني أنه حتمية تسري على الخالق عز وجل ، بل يعني أن حكمته سبحانه اقتضت ارتباط هـذه بتلك ارتباطا ضروريا، لكي يتمكن الانسان من تسخير ما في الكون في شئون حياته المختلفة؛ لأنه من غير هـذا الارتباط، يتعذر عليه القيام بأمانة الاستخلاف في الأرض.

ومما لا جدال فيه أن الحتمية في السنن لا يمكن (لا عقلا ولا تصورا) أن تسري على الخالق العظيم؛ لأنه سبحانه هـو الذي خلق الكون، وخلق كل شيء فيه، وقدر العلاقات المختلفة بين عناصره ومفرداته.. أي أنه سبحانه هـو الذي قدر السنن على هـذه الصورة البديعة المتناسقة، وخلق أسبابها، وقدر نتائجها، وجعل العلاقة بين السبب والنتيجة قائمة وفق نظام مطرد، قابل للتكرار والإعادة كلما توافرت شروطه.. [ ص: 34 ] ولقد أظهر الله عز وجل من خلال تاريخ البشرية الطويل، ومما جاء في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم أن خرق السنن، والخروج بها عن مألوفها، لا يكون أبدا إلا بمشيئة الله، وأنه ليس في وسع أي مخلوق كان أن يتدخل في طبيعة هـذه السنن، فيغيرها، أو يحرفها عن الطريقة التي قدرها الله عز وجل لها.

وحين ندرك -نحن المسلمين- إدراكا عميقا أن كل شيء في هـذا الوجود خاضع لسنة لا تتبدل ولا تتحول، ثم نحول هـذا الإدراك إلى نتاج عملي من خلال تعاملنا الواقعي مع سنن الله في الخلق.. فعندئذ نصبح - بعون الله - قادرين على تسخير الكون من حولنا، وفق الطريقة القومية، التي أمرنا بها رب العزة سبحانه.. وبهذا نأمل أن نخرج من أزمة تخلفنا، التي عشنا عليها ردحا طويلا من الزمان، والتي كانت في جانب كبير منها نتيجة طبيعية لغفلتنا عن العلاقة بين الجهد البشري، وسنة الله في الخلق.. هـذه الغفلة هـي التي أوقعتنا في أغلال التواكل، الذي شلنا عن الحركة الفاعلة المؤثرة في أحداث العالم

وثمة ثمرة طيبة أخرى، يمكن أن نجنيها من فهمنا الصحيح لعلاقة السنن بحياتنا، ذلك أن إيماننا بأن كل أمر في هـذا الوجود خاضع لسنة، سوف يعيننا بإذن الله - على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والتشتت؛ لأن كشف السنة التي تحكم أمرا من الأمور، سيجعل النظرة إلى هـذا الأمر نظرة واقعية، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف، إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف.

كما نأمل أن يسهم فهمنا الصحيح للسنن، وتحكيم هـذا الفهم بالتعامل مع الواقع في تخليص الصحوة الإسلامية المعاصرة من الاجتهادات المزاجية، التي انتشرت في صفوف بعض الجماعات، التي لم تضع حتى الآن مفهوم السنن في حسابها، ولم توجه بعض جهدها وفق معطيات هـذه السنن، فنراها تخرج من مأزق، [ ص: 35 ] لتدخل في مأزق جديد.. وتستمر على هـذه الحال قانعة بكل ما يترتب على أفعالها من نتائج، وهي تظن أنها تحسن صنعا وكثيرا ما نسمع الآية الكريمة ( قل إن الأمر كله لله ) (آل عمران: 154) تتردد بعد كل محنة، لتبدأ من جديد أحداث محنة جديدة بينما كان بالإمكان فعل شيء أفضل من هـذا لو أننا بعد الإخفاق وقفنا وقفة تأمل وتدبر ومحاسبة، لنحدد موقع الخلل، ونعرف السنة التي على نهجها يجب أن تضبط حركتنا.. فعندئذ يمكن أن نصل لما نريد بإذن الله، وأن نحقق حلم الحضارة الإسلامية الذي عشنا عليه زمنا طويلا.

من هـنا كانت أهمية الحديث عن أزمتنا المعاصرة من زاوية علاقتها بالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، علما بأن هـذه الزاوية ليست إلا واحدة من زوايا عديدة جدا يمكن من خلالها النظر إلى هـذه الأزمة.. فمما لا ريب فيه أن أزمتنا أزمة معقدة متشابكة الفروع، لا يستطيع أي باحث أن يدعي الإحاطة بملابساتها جميعا.

غير أن هـذه الحقيقة -على فداحتها- لا تعني عصيان الأزمة عن الحل.. فمهما اشتد الظلام، وتلبدت الغيوم، سيبقى ثمة قمر منير.. وسيبقى ثمة أمل بالفرج. [ ص: 36 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية