أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق

الدكتور / أحمد محمد كنعان

صفحة جزء
2– العلم

الصلة وثيقة بين ( العلم ) ، وبين السنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه، فالقوانين التي قامت عليها العلوم المختلفة، ترتكز على أساس من فهم السنن، بل إن القوانين التي ثبتت صحتها بدليل قطعي، ما هـي إلا صياغة بشرية، لما اكتشفه الإنسان من السنن الربانية، التي تحكم كل صغيرة وكبيرة في هـذا الوجود

ومن المعروف أن القانون العلمي يمر بمراحل عدة، قبل أن يصاغ صياغة نهائية، وقبل أن يصبح قابلا للتطبيق العلمي ( أو التسخير ) ، وهذه المراحل هـي:

أ – الملاحظة: إذ يلاحظ الباحث من خلال تأملاته بالطبيعة، أو من تجاربه في المختبر، أن هـناك ظاهرة ما تتكرر في وتيرة واحدة ثابتة.

ب – الفرضية: وبناء على معطيات الملاحظة الأولية يضع الباحث فرضية لتفسير الظاهرة التي استدعت انتباهه.

ج - البرهان: وبعدئذ يصبح على الباحث لزاما أن يستيقن من صحة الفرضية، التي وضعها لتفسير الظاهرة، وفي سبيل ذلك لا بد أن يبحث عن العوامل، التي لها علاقة مباشرة بهذه الظاهرة، وقد يتطلب ذلك منه إجراء بعض التجارب المعملية للبرهنة على صحة ما توصل إليه من معرفة العناصر والعوامل والظروف في حدوث الظاهرة.

د – القانون: فإذا ما نجح الباحث في إعادة تشكيل الظاهرة نفسها فإنه يكون قد فهمها فهما صحيحا وعلم حقيقتها علما يقينيا، [ ص: 112 ] أي أنه يكون قد علم السنة التي تحكمها.. وحينئذ يصبح قادرا على أن يصوغ القانون العام الشامل الذي يحكم هـذه الظاهرة، ويحكم كذلك كل الجزئيات المماثلة لموضوع هـذه الظاهرة.

ويعد هـذا المنهج في البحث هـو الأساس الذي قامت عليه العلوم المختلفة.. أي أن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هـو معرفة السنن التي تحكم هـذا الكون.

.. ومما لا ريب فيه أن وضع العلماء للقوانين، وتعميم هـذه القوانين بعد ذلك على الصورة التي قدمناها، سوف يفقد مبرراته ومصداقيته، ويغدو بلا معنى، لو لم تكن السنن الربانية متصفة بالثبات، وعدم التبدل والتحول، فلولا هـذه الصفات لما أمكن لأي باحث أن يضع نظرية، أو يقرر قانونا علميا له صفة العموم والشمول، ولما كان ممكنا أيضا قيام أي من العلوم البشرية المعروفة اليوم وهذا ما يؤكد أن ثبات السنن يشكل الأساس الأول في بنية العلوم؛ لأن ثبات السنن هـو الذي جعل من الأمور المسلم بها لدى العقل البشري، أن القانون الذي يصدق على مجموعة معينة من مجاميع الطبيعة، يصدق كذلك على المجموعات الأخرى المماثلة لها.. ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:

فقد لاحظ العلماء مثلا أن عنصر الأكسجين يتحد مع عنصر الهيدروجين بنسبة معينة ليتكون من هـذا الاتحاد جزئيات الماء، وفق المعادلة التالية:



ثم لاحظ العلماء أن الأكسجين نفسه يتحد مع الكربون بنسبة مختلفة عن النسبة التي اتحد بموجبها مع الهيدروجين، فينتج من ذلك ثاني أكسيد الكربون كما يلي:

[ ص: 113 ]

ثم عرف العلماء أن هـذه الظاهرة تتكرر في بقية العناصر الكيميائية، فيتحد كل عنصر مع العناصر الأخرى، وفق نسب معينة تتعلق بالأوزان الذرية لهذه العناصر.. وعندئذ توصل العلماء إلى معرفة السنة، التي يتم بموجبها اتحاد العناصر الكيميائية بعضها مع بعض، وأطلقوا على هـذه السنة اسم ( قانون النسب ) الذي يحمل اليوم اسم الكيميائي ( دالتن ) .

ونأخذ مثالا آخر من علم الاجتماع.. فعندما لاحظ الباحثون الاجتماعيون أن تفشي ظاهرة اجتماعية معينة في أحد المجتمعات يؤدي إلى حدوث تغييرات واضحة المعالم في بنية هـذا المجتمع.. وعندما لاحظوا أن تلك الظاهرة نفسها تؤدي لحدوث نفس التغييرات في المجتمعات البشرية الأخرى.. عندئذ أيقنوا أن حياة المجتمعات قاطبة محكومة بنوع من السنن الصارمة التي تحكم تطورها واتجاهها.. وبناء على هـذه المعطيات استطاع هـؤلاء الباحثون تحديد معالم بعض السنن الاجتماعية، ووضعوا على أساسها أصول ( علم الاجتماع)

ومن هـنا.. يمكن أن نخرج بتعريف أولي للعلم على ضوء علاقته بالسنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، فنقول: ( العلم: هـو المعرفة اليقينية بالسنن، التي تحكم جزئية من جزئيات هـذا الوجود ) وهذا التعريف للعلم يحدد لنا المسألة تحديدا دقيقا..

فلا يصح أن أدعي بأن عندي علما بقضية ما من القضايا، ما لم أكن قد عرفت يقينا السنة التي تحكمها، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن معرفة السنة التي تحكم ظاهرة ما، تعني بالضرورة معرفة كل العوامل والشروط المتعلقة بالظاهرة المحيطة بها، وتعني كذلك القدرة على إعادة تشكيل الظاهرة من جديد انطلاقا من تلك العوامل والشروط.. وبمعنى آخر: فإن العلم بظاهرة ما من ظواهر الوجود يعني أمرين اثنين:

1 – القدرة على التنبؤ بنتائج الظاهرة تنبؤا يقينيا، وليس مجرد ظن، [ ص: 114 ] لأن الظن قد يصيب وقد يخطئ، ويعني كذلك أننا لم نحط بالظاهرة إحاطة تامة.

2 – القدرة على تسخير الظاهرة نفسها من خلال تهيئة شروطها وأسبابها، التي سبقت معرفتنا بها.

وهذا هـو العلم اليقيني، الذي لا يدانيه باطل.

وهذا هـو العلم النافع، الذي يمكن به تسخير العالم المحيط بنا تسخيرا صحيحا.

وهذا هـو العلم الذي يحثنا القرآن الكريم على تحصيله، وذلك من خلال عدد كبير من الآيات.. فقد وردت كلمة ( العلم ) بتصريفاتها المختلفة فيما يزيد عن سبعمائة آية، مشفوع معظمها بالدعوة إلى التأمل في آيات الله ( أو سننه ) على بصيرة، ووفق المعايير العلمية المبرأة من الظن والهوى.

وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية الحكيمة أثر هـام في تشكيل العقلية الإسلامية، التي استطاعت فيما بعد إرساء قواعد البحث العلمي، وأصول المنهج التجريبي؛ لأنها أصبحت تنظر إلى الكون نظرة جديدة لا تكتفي بمجرد الدهشة والانبهار، عند اكتشاف سر من أسرار الخلق، أو سنة من سنن الخلق.. بل أصبحت تنظر إلى الوجود نظرة علمية إيجابية، تستهدف فهم السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، ومن ثم تسخير هـذه السنن، و الاستفادة من معطياتها في تصريف شئون الحياة، وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر به رب العزة سبحانه.

علم الكتاب والحق.. أن القرآن الكريم لم يقف بالمسلمين عند هـذه الحدود في حثهم على العلم، بل تجاوز ذلك إلى تحريض العقلية الإسلامية على [ ص: 115 ] التحليق نحو آفاق أبعد وأرحب، حين تحدث حديثا مسهبا عن واقعة خارقة للعادة، ثم ربطها ربطا مباشرا بقضية العلم، وتلك هـي قصة نبي الله ( سليمان ) عليه السلام مع ( بلقيس ) ملكة ( سبأ ) الذي طلب من جنوده إحضار عرشها قبل أن تأتيه وقومها مسلمين، فتصدى لهذه المهمة الصعبة واحد من الجن ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ) (النمل: 39) ، لكن سليمان عليه السلام كان يطمح للحصول على العرش بأسرع من ذلك، فراح ينظر فيمن حوله متسائلا عمن يستطيع تحقيق حلمه، وعندئذ ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (النمل: 40) ، وما هـي إلا لحظات خاطفة حتى كان العرش الثمين بين يدي النبي عليه السلام .

وواضح من خلال السرد القرآني البليغ لهذه القصة الطريفة، أن قضية إحضار العرش من أقصى اليمن ، حيث كانت تعيش الملكة بلقيس، إلى فلسطين ، حيث كان يعيش نبي الله سليمان، كان أمرا معجزا خارقا للعادة آنذاك، يوم لم يكن معروفا من وسائل التنقل غير الدواب.. لكن الملفت للنظر حقا، أن القرآن الكريم لم يعرض الواقعة بوصفها أمرا معجزا وكفى، بل عرضها عرضا متميزا يدعو للتأمل والتدبر، إذ نجده يؤكد على دور العلم في القضية، نلمح ذلك من خلال معالجة كل من العفريت والذي عنده علم من الكتاب لهذه القضية.. فالعفريت من الجن أراد إحضار العرش معتمدا على قدراته الجسدية، التي منحه الله إياها خلقة فقال: ( وإني عليه لقوي أمين ) وأما ( الآخر ) الذي أحضر العرش فعلا خلال زمن قياسي قصير جدا فقد لجأ إلى ( العلم ) الذي تشير الآية الكريم إلى أنه (علم من الكتاب)

وقد اختلف المفسرون في بيان حقيقة هـذا الكتاب، فقال بعضهم: إنه التوراة. وقال بعضهم الآخر: إن الذي أحضر العرش كان يعرف اسم الله الأعظم. وقال آخرون أقوالا غير هـذا وذاك ودون تعليل مستيقن، ونحن نرى أن الأمر أقرب وأظهر من ذلك كله، حين ننظر إليه بمنظار الواقع الملموس.. [ ص: 116 ] فكم في هـذا الكون الرحيب من أسرار نجهلها.. وكم فيه من سنن لا ندركها.. وحينما يشاء الله عز وجل أن يكشف شيئا من ذلك، فإنه يهدي من يشاء إلى ( السر ) ، ويرشده إلى فهم بعض السنن الكونية التي يحصل من تسخيرها ما يبدو لنا – نحن الجاهلين بذلك السر – أنه خارج عن المألوف، خارق للعادة

وعلى هـذه الشاكلة يمكن أن نفهم كيف حقق ذلك العبد ( الذي عنده علم من الكتاب ) تلك الخارقة العظيمة في نقل عرش الملكة آلاف الأميال خلال لحظات خاطفة

واليوم.. نحن نعيش هـذه الثورة العلمية، التي تطلع علينا كل صباح باختراعات وإنجازات مذهلة، نجد أنفسنا وقد أصبحنا أقرب إلى فهم تلك الواقعة التي حدثنا القرآن عنها، كما أصبحنا ندرك إدراكا مباشرا لماذا ربطها بقضية ( العلم ) ، وبخاصة أن العلم الحديث قد أتاح لنا تحقيق منجزات تقارب تلك الخارقة في عظمتها، وذلك بفضل الله الذي هـدانا إلى كشف الكثير من السنن، التي مهدت لنا صنع الطائرات النفاثة، والمركبات الفضائية، القادرة على الطيران بسرعات تتجاوز الصوت بمرات ومرات

وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخرا أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت فعلا بتنفيذ مشروعها الطموح لإنتاج ( قطار الشرق السريع الجديد ) وهو في الواقع ليس قطارا بل طائرة صاروخية تفوق سرعتها سرعة الصوت بنحو ( 25 مرة ) تستطيع مثلا قطع المسافة القصية ما بين ( لندن ) في إنجلترا و ( سيدني ) في استراليا بأقل من ( 45 دقيقة ) وهذه المسافة تزيد أضعافا مضاعفة عن المسافة التي نقل عبرها عرش بلقيس

وهذا يعني أن الإنسان – بما حصله حتى الآن من علم بسنن الطيران – قد تجاوز سرعة الجن ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) وسوف يواصل الإنسان – بإذن الله – رحلة بحثه هـذه حتى يقترب أكثر فأكثر من تحقيق السرعة [ ص: 117 ] القرآنية الأخرى ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )

التي بدأنا نلمح بعض تباشيرها فيما توصل إليه حتى الآن، من اختراعات فذة في مجالات الاتصال اللاسلكي، إذ أصبح التلفزيون مثلا قادرا على نقل الأحداث إلينا لحظة حدوثها في أية بقعة من بقاع الأرض، أو الفضاء البعيد.. كما أن وسائل الاتصال الإلكتروني يسرت لنا اليوم نقل الرسائل المكتوبة عبر الهاتف فيما يعرف بـ (الفاكسميلي) وهذه كلها بعض تباشير تحقيقنا لتلك السرعة القرآنية التي أشرنا إليها

ونعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، لكي نتوقف عند هـذا البيان المعجز في قوله تعالى: ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (النمل: 40) فإن هـذه الآية لم تبين لنا شخصية ذلك الذي (عنده علم من الكتاب) أبشر هـو أم جني؟ وهي لفتة جديرة بالتأمل، وأن نقف عندها طويلا، ونجعلها مع الإشارة السابقة إلى (الكتاب.. بهذا اللفظ المعرف المبهم ) دليلا قويا على وظيفة العلم في عملية التسخير.. وكأن الآية الكريمة تريد أن توحي لنا بأن العلم ما هـو إلا (كتاب) مبثوثة حروفه وكلماته في أرجاء هـذا الكون الفسيح، وما على الذين يريدون الاستفادة مما في هـذا الكتاب إلا أن يحسنوا القراءة فيه.

وهم – بطبيعة الحال – لن يحسنوا القراءة أبدا إلا أن يسيروا في الأرض بقلوب مبصرة، ونفوس تواقة للمعرفة، على هـدي التوجيه الرباني الحكيم ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) ( يونس: 101) ، لكي يتفكروا في السنن التي تحكم هـذا الوجود، ويستجلوا حقيقتها في الآفاق وفي أنفسهم، ثم يعملوا على تسخيرها كما أمرهم بذلك رب العزة سبحانه وبهذا المنهج يمكن أن نهتدي – بإذن الله – إلى السنن التي على نهجها تسير الحياة.. وهذا هـو الطريق الصحيح للوصول إلى ( العلم ) الحقيقي الذي سوف يحقق لنا في المستقبل ما نراه اليوم مستحيلا [ ص: 118 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية