المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي

الدكتور / عبد العظيم محمود الديب

صفحة جزء
هـ - منهج العكس

هو نوع آخر من الفساد، يعتري البحوث والدراسات الاستشراقية، وهو غير المنهج المعكوس (المقلوب) ؛ أي الذي توضع فيه النتائج مقدما، ثم يكون البحث عن الأدلة التي تؤيدها، فذلك قد أشرنا إليه قبلا؛ حيث تحدثنا عن الخضوع للهوى، وعدم البراءة من سلطانه، وجعلنا من آثار الخضوع للهوى هـذا المنهج المعكوس.

أما منهج العكس ، فنعني به شيئا آخر؛ وهو أن ينظر الباحث في النصوص والوثائق والروايات، فإذا قالت شيئا فعليه أن يدرك أن الصواب هـو عكسه تماما.

يقول ناصر الدين دينيه (الذي كان من كبار المستشرقين الفرنسيين وهداه الله للإسلام) ، وهو ينتقد أعمال المستشرقين وأبحاثهم: (إن منهج العكس هـو ذلك المنهج الذي يأتي إلى أوثق الأخبار وأصدق الأنباء فيلقيها [ ص: 103 ] -متعمدا- إلى عكسها، وكلما كانت الأخبار أوثق بدت -قوية جامحة- الرغبة في البراعة من ذلك الذي يتبع هـذا المنهج، ولما كان ينبغي أن يستند إلى دعامة ما، فقد تبنى أصحاب هـذا المنهج الفكرة التي تقول: البشر يعملون غالبا على كتمان عيوبهم والظهور بنقيضها) .

ويستمر ناصر الدين قائلا: (وهذه فكرة لا يمكن أن تتخذ كمبدأ عام، وإلا كنا مضطريين إلى كتابة التاريخ بأجمعه من جديد، وعكس صورة الطبيعة كلها عكسا تاما.

إن جميع القديسين إذا أشرار. وجميع الأنبياء طالحون، وجميع الشجعان جبناء، وجميع الأديان تهريج.

وقد شاع هـذا المنهج عند بعض المتحذلقين حتى أصبح (موضة) ... ولقد أراد بعض الظرفاء أن يسخر من أتباع هـذا المنهج، فألف رسالة دلل فيها في براعة بارعة على أن نابليون لم يوجد قط، وأن تاريخه أسطورة ملفقة ابتدعتها فرنسا، تريد بها التغطية على ما يشاع من ضعفها الحربي) .

ثم يستمر ( دينيه ) مدللا على فساد هـذا المنهج، وكأنه يوجه كلامه لمتعصبة المستشرقين، فيقول: وإننا لو نظرنا في الأناجيل من هـذه الوجهة واتبعنا هـذه السنة لوجب أن نتناول كل حسنة فيها، ونعكسها... وإذن لما بقي جديرا بمودة (القسيس) إلا (هيرود) و (يهودا) ، اللذان يجب أن يرفعا إلى مصاف القديسين الأخيار >[1] .

ولقد كان المستشرق لا منس اليسوعي من أكثر المستشرقين اعتمادا على منهج العكس، وهذه نماذج من ثمار استخدامه لهذا المنهج:

إن مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان شجاعا، لقد [ ص: 104 ] كان يقود الجيوش في الغزوات، ولم تطر نفسه شعاعا في أية واحدة، منها ولا يوم أحد -وقد ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا- ولم تهله كثرة الجيوش المعادية في غزوة الخندق ، يوم أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولم ترعه النبال كالمطر، يوم حنين .

ومع ذلك فإن (لا مانس) يصفه بعدم الشجاعة، ثم يحاول أن يعمم الحكم على العرب قاطبة، يقول: (زعموا أن العربي يتسم بالشجاعة، بل لقد عللوا النجاح في الفتوح الإسلامية الأولى بما يمتاز به العربي من صفات ومزايا، ولكني أتردد كل التردد في قبول هـذا الرأي المبالغ فيه كل المبالغة... إن شجاعة العرب إنما هـي من نوع غير سام) >[2] .

ويرد ناصر الدين دينييه هـذه الفرية، مؤكدا شجاعة العرب، مذكرا إياه بمواقفهم في الحرب العالمية، ومساندتهم للحلفاء -قوم لا مانس- وأحاله على شهادة القواد الغربيين للمقاتلين المسلمين، فقال: (والرد على القسيس اللبناني بسيط، ويكفي أن نسدي إليه هـذه النصيحة: وهي أن يقرأ آلاف الشهادات التي نالها من قيادة جيوش الحلفاء الجنود المسلمون الشجعان، الذين حاربوا دفاعا عما اعتقدوه حقا، فكانوا من عوامل النصر في الحرب الكبرى، لقد أثارت فرق الهجوم منهم إعجاب العالم أجمع، وإن هـذه الشهادة في أسلوبها العسكري الموجز صرح شامخ مجيد، يسجل روح التضحية والبطولة لدى العرب المغاوير.

وإن سهام النقد -مهما بلغت من العنف- لا يمكن أن تنال من هـذا الكتاب الذهبي النفيس؛ ذلك أنه مكتوب بخط قواد منصفين، لا يمتون إلى الأمة العربية بصلة الجنس أو الدين.

ومن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء ، [ ص: 105 ] ينفرد بنفسه، يستجمع ذهنه وشعوره، منصرفا كل الانصراف عن هـذا العالم المادي، مستغرقا في التفكير في الله، ولكن (لا مانس) يؤكد أنه كان يكره الوحدة.

ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوتهم نار، وكثيرا ما كان قوته التمر والماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه الحجر من الجوع، ومع ذلك فإن (لا مانس) يصفه بأنه أكول، وقد كثف جسمه بالملذات، ولا يذكر شيئا عن صوم الرسول لشهر رمضان، وأنه كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، وكان يصوم حتى يظن أنه لا يفطر، وقد كان الرسول من أكثر المسلمين صوما، ولكن القسيس (لا مانس) يثبت على عناده،

ويقول الله تعالى: ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) (سورة المزمل:20) . وقد نقلت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ لطول وقوفه في الصلاة، ومع ذلك يقول (لا مانس) : كان محمد نئوما >[3] .

ونستطيع أن نقول له:

إن مشركي قريش قد لجوا في عنادهم كل اللجاجة، وكانوا يبحثون بعيون طلعة عن أي مطعن أو مغمز، فلو رأوا أن ما جاء في القرآن من وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالقيام ليلا لا يصدقه واقع الحال، لكان لهم شأن، ولنقل إلينا عن هـذه المعارضة.

وقد ناقشه ناصر الدين دينييه بقوله: [ ص: 106 ] (وهو -أي: لا مانس- لا شك يجهل أو يتجاهل أن روح النقد عند العرب تبلغ حد الإفراط، وأن هـؤلاء لو رأوا ما يكذب خبر القرآن من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي جزءا كبيرا من الليل في العبادة لما استمروا على متابعته وتصديقه، ولما احتفظ هـو بثقتهم) .

وإنه لمن المعروف أن العالم لم ينجب من أمثال سيدنا عمر إلا أفرادا يعدون على الأصابع؛ إن عمر من أعظم الفاتحين المصلحين الذين عرفهم التاريخ، وإن عدالته الرحيمة الصارمة، وسياسته الحكيمة النافذة، وإدارته الدقيقة الساهرة، كل ذلك يجعله من هـؤلاء الذين لا يظفر التاريخ بأمثالهم إلا في دهور دهيرة، وإننا حقا لا نكاد نجد ممن يشابهه في التاريخ، اللهم إلا إذا كان الإسكندر الأكبر .

ومع ذلك، فقد كان عمر في نظر القسيس (لا مانس) جنديا مسكينا، أدنى مرتبة من الوسط، ولكنه في كراهيته البالغة للإسلام ينسى أو يتناسى هـذا الوصف حينما يريد أن ينتقص -معاذ الله- من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيذكر أن عمر سيطر عليه هـو وأبو بكر .

وليس عمر وحده هـو الذي نال منه قلم القسيس، فقد أخذ القسيس يحطم -كعاصفة هـوجاء- كل أخيار المسلمين: الرسول، أبا بكر، عمر، عثمان، عليا، فاطمة، عائشة، حفصة، وغيرهم... وغيرهم.

أما إذا تحدث عن أعداء الإسلام؛ كأبي جهل، وأبي لهب، ألد أعداء النبي، أما إذا ما تحدث عن المنافقين، خونة الإسلام، أما إذا ما تحدث عن يزيد قاتل الحسين، فإنه يشيد ما شاء له هـواه ويمدح ما أمكنه المدح، ويطري كلما أتيح له الإطراء، ويلبسهم من الفضيلة ثوبا لامعا خلابا >[4] .

أما المنافقون فهم أبطال الوطنية، عند القسيس، وإذا تساءلت: من هـو هـذا الدخيل الذي لم تنبته الجزيرة العربية، والذي يقف أمامه (أبطال الوطنية القومية) فإنك لا تجد من القسيس إلا صمتا. [ ص: 107 ] أكان محمد (فارسيا) غازيا للجزيرة العربية؟

أم كان (روميا) يهاجمها؟

أم هـو عربي يحب وطنه ويعمل على جمع شتاته، في وحدة تكون قدوة ومثلا أعلى لكل من يشرئب بصره نحو الكمال؟ >[5]

وأعجب نموذج، وأبلغ صورة لمنهج العكس هـذا عند (لا مانس) أنه إذا أراد أن يؤيد دعواه في قضية من القضايا، ثم بحث حتى أعياه البحث فلم يجد خبرا؛ لا صحيحا ولا سقيما يؤيد ما ادعاه، فإنه لا يتراجع، وإنما يمضي في جرأة نادرة -على حد تعبير (دينييه) - ويستمر متشبثا بدعواه، ويقول: (إن هـذا أمر عني رجال الحديث بكتمانه) >[6] . هـكذا إذا لم يجد الخبر، فهو حقيقة، ولكن تواطأ الرواة على كتمانه.

وليس هـذا الفساد المنهجي (منهج العكس) قاصرا على (لا مانس) وأضرابه من متعصبة المستشرقين، بل إننا نلحظه عند كثيرين منهم، ولكن بدرجات متفاوتة، فمن ذلك مثلا ما نراه عند ( ول. ديورانت ) في كتابه: (قصة الحضارة) ؛ حيث لا يعجبه أن المؤرخين في كل ما كتبوه: (صوروا هـارون الرشيد -أولا وقبل كل شيء- في صورة الرجل الورع المتمسك أشد التمسك بأوامر الدين... وأنه كان يحج إلى مكة مرة كل عامين >[7] ، وأنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة مع الصلوات المفروضة) أ. هـ. [ ص: 108 ] فهو يرى أن هـذه الصورة غير الصورة المعروفة عن هـارون الرشيد، حيث صورته قصة: (ألف ليلة وليلة) في صورة الملك المرح، ولكن هـذا (المرح) أغضب المؤرخين، فصوروه في صورة الورع المتمسك بالدين... إلخ.

فكل المؤرخين في نظر (ديورانت) كاذبون مزيفون، ساءهم مرح هـارون الرشيد ، فاخترعوا له صورة (معكوسة) (عكس الواقع) . وهكذا يفعل ( منهج العكس ) عند علماء الاستشراق وفي أبحاثهم >[8] .

التالي السابق


الخدمات العلمية