مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح

الدكتور / ماجد عرسان الكيلاني

صفحة جزء
2- منهج التفكير السليم

يتضمن منهج التفكير الذي تتطلع إليه التربية الإسلامية, ثلاثة مكونات رئيسية هـي: خطوات التفكير, وأشكال التفكير, وأنماط التفكير..

وفيما يلي تفصيل لكل من هـذه المكونات الثلاثة:

أ - خطوات التفكير

تبدأ خطوات التفكير السليم بالإحساس بالظاهرة, ثم الانتقال إلى خطوة الوعي بهذه الظاهرة, وتحديد إطارها وميدانها, ثم الانتقال إلى خطوة التعرف على تفاصيل هـذه المعلومات وتدبرها وتصنيفها, واكتشاف اللائق بينها، ثم الانتقال إلى خطوة اكتشاف الحكمة الكامنة وراء الظاهرة.

ومن الإنصاف أن نقول: إن خطوات التفكير العلمي التي أفرزتها التربية الحديثة تتطابق مع هـذه الخطوات, بل إنها كانت مثيرا قويا في لفت الانتباه إلى خطوات التفكير التي يشير إليها القران الكريم.

والقران يجعل هـذه الخطوات من التفكير صفة أساسية من صفات المؤمن, وينهى عن مخالفتها, ويتوعد بالمحاسبة عليها:

( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء: 36) .

بل إن القرآن ينتقد بشدة لاذعة الذين يقفزون عند السماع الأولي للمشكلة, إلى إصدار الأحكام, وإشاعتها، دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماع الداخلي, الذي يشترك به مع القدرات العقلية, ويتبادل معها [ ص: 55 ] التحليل، والتأليف, والاستنتاج.. ويصف القرآن هـذا الأسلوب المتسرع, بأنه تلقيا للمعلومات الأولية باللسان, دون الصبر عليها حتى تمر بالإذن, وتصل إلى منطقة الوعي. ويتهدد القرآن الفاعلين لذلك بالعقوبة الإلهية, لما يترتب من أخطاء في الحكم, وعدوان على الأبرياء:

( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هـينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هـذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ) (النور:15-17) .

وحين تتعقد المواقف والمشكلات – خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطار- وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات العقلية والخبرات العميقة, ومناهج التفكير الحكيم, فإن القرآن يعيب على أولئك الذين يتلقونها باللفظ والإشاعة, ويوجه إلى وجوب إقامة هـيئة متخصصة, يكون عملها تحليل هـذه المواقف والمشكلات, واستنباط أسبابها, والحلول اللازمة لمواجهتها:

( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) (النساء:83) .

ومن الطبيعي أن العاملين في هـذه الهيئة, يحتاجون إلى إعداد متميز في مجال تربية القدرات العقلية, ومنهج التفكير الحكيم, لمساعدتهم على استنباط الأمور وعلمها. ومن الطبيعي أن يجري انتقاء الذين تجري تربيتهم للعمل في مثل هـذه الاختصاصات من بين

" أولى الألباب " المتفوقين من ذوي القدرات العقلية العالية.

ب - أشكال التفكير

وأما عن القسم الثاني لمنهج التفكير السليم وهو " أشكال التفكير " فهذه تشمل ما يلي: [ ص: 56 ]

(1) تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدل التفكير التربري

نعني بالنقد الذاتي ، ذلك الأسلوب من التفكير, الذي يحمل صاحبه المسئولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، أو ما ينتهي إليه من فشل، ونعني بالتفكير التربوي , ذلك التفكير الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطأ برأه من المسئولية, وراح يبحث عن مبررات خارجية, وينسب أسباب الأخطاء أو القصور والفشل إلى الآخرين.

والقرآن – في جميع توجيهاته – يقرر النقد الذاتي قاعدة أساسية في جميع النواقص والأخطاء الفردية أو الاجتماعية. ومن توجيهاته في هـذا المجال قوله تعالى:

( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) (الشورى:30) . ( فلا تزكوا أنفسكم هـو أعلم بمن اتقى ) (النجم:32) .

وفي قصة آدم وإبليس توجيهات واضحة لممارسة النقد الذاتي، وإدانة للتفكير التربوي, وإلقاء المسئولية على الآخرين. فمع أن أحداث القصة تذكر بصراحة دور إبليس في إغواء آدم وزوجه، حملا نفسيها مسئولية المعصية, التي حدثت, ولم ينسبا ذلك إلى الشيطان, الذي أغواهما بذلك, وحسنه لهما. وفي ذلك توجيه لذرية آدم وحواء. ليتخذوا من النقد الذاتي منهجا في تقويم الآثار السلبية, التي تنتج عن الممارسات الخاطئة

( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (الأعراف : 22-23)

كذلك توجه القصة إلى التفكير التبريري, ونسبة الأخطاء إلى " الغير " , هـما منهج تفكير إبليسي, رائده إبليس نفسه، حين نسب الإغواء إلى الله – مع أن شيئا من ذلك لم يحدث – وإنما كان سبب معصية إبليس, ما اتصف به حسد لآدم, واعتزاز لآدم, وتفاخر في المنشأ. [ ص: 57 ] والواقع أن التحليل الدقيق للأخطاء التي تقع, أو المصائب التي تنزل، يوضح أن هـذه الأخطاء والمصائب هـي مسئولية من تنزل به. لأن المصيبة هـي وليد يولد من تزاوج قوة مع ضعف، كما يولد الطفل من تزاوج ذكر مع أنثى. ولا يمكن بحال أن تولد مصيبة من التقاء قوة بقوة.

فالمصائب التي تنزل، سببها تزاوج ضعف من نزلت به, مع قوة من تسبب بها، ولو أن من نزلت به المصيبة كان مبرأ من الضعف, لأوقفت قوته قوة السبب, وأبطلت فاعليتها. ولذلك يحاسب الله الضعفاء والمستضعفين, كما يحاسب الأقوياء المعتدين, ويعتبر كلا منهما ظالما: هـذا ظالم لنفسه، إذ لم يسلحها بالقوة, ويستعمل طاقاتها, وإمكاناتها لدفع العدوان الذي نزل بها, وذلك ظالم للناس إذا استعمل قوته للعدوان ونصره الباطل, بدل أن يستعملها لنصرة الحق.

( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) (النساء: 97) .

وفي المقابل, يمدح الله الأقوياء الذين إذا انزل بهم العدوان والبغي, قابلوه بالقوة ودفعوه:

( والذين إذا أصابهم البغي هـم ينتصرون ) (الشورى: 39) .

وبالإجمال, فإن النقد الذاتي, يتخذ في القران الكريم والسنة الشريفة شكل المبادئ الثابتة، والموازين الدائمة, التي توجه الإنسان لأن يتحرى دوره هـو نفسه في كل مايصيبه في أي زمان أو مكان, ولا يبحث عن مبررات من خارجه.

(2 ) تدريب المتعلم على التفكير الشامل بدل التفكير الجزئي

المقصود بالتفكير الشامل هـو ذلك الأسلوب من التفكير الذي يتناول الظاهرة من جميع جوانبها, ويتحرى جميع أجزائها, وما يتعلق بها. [ ص: 58 ] أما التفكير الجزئي : فهو يركز على جزء من الظاهرة، ثم يعمم أحكامه على بقية الأجزاء.

والقران الكريم يربط مستوى العلم بمستوى التفكير, فيسمى: ظاهر العلم، والإحاطة بالعلم, والرسوخ في العلم.

أما ظاهرة العلم: فهو العلم السطحي الجزئي, وهو ثمرة التفكير الجزئي.

وأما الإحاطة بالعلم: فمعناها العلم بالمكونات الرئيسية.

وأما الرسوخ في العلم: فمعناها العلم بالمكونات الرئيسية, والتفصيلات, والعلاقات القائمة بين هـذه التفصيلات, وبما يحيط بها, ثم القدرة على تركيبها كلها في واحد.. والإحاطة بالعلم, والرسوخ في العلم, هـما ثمرة التفكير الشامل.

والإحاطة بالعلم تؤدي إلى التصديق, ولكنها لا تؤدي إلى اليقين, بينما عدم الإحاطة بالعلم يؤدي حتما إلى التكذيب والاختلاف:

( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) (يونس:39) .

والرسوخ في العلم يؤدي إلى الإيمان مثل قوله تعالى:

( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) (آل عمران: 7) .

وفي الغالب, يرتبط التفكير الشامل بأوقات الاجتهاد, والازدهار العلمي، ويكون العمق في البحث, والاستقصاء، والمثابرة، ويكون للعلماء من التأني والصبر على مشاق البحث, ما يصلون به الى درجة الرسوخ والابتكار. ويرتبط التفكير الشامل كذلك, بدراسة ما يعجب وما لا يعجب, بل أن دراسة ما لا يعجب – إن كان باطلا – خاصة في ميدان العقائد, وهو مقدمة لرفضه, وتقبل ما هـو حق. والقرآن يشير إلى أن معرفة الطاغوت مقدمة للكفر به, والرسوخ في الإيمان: [ ص: 59 ]

( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) (البقرة: 256) .

أما التفكير الجزئي فهو يرتبط – غالبا – بأوقات الجمود والتقليد, وضعف القوى العقلية, والميل مع الهوى.

وخطورة التفكير الجزئي أنه تفكير انتقائي ينتهي إلى الأحكام الخاطئة المضللة, ويقود إلى تمزق وحدة الموضوع, وتجزئة الميادين والظواهر العلمية، مما ينعكس أثره على تجزئه الظواهر الإجتماعية, وتمزق وحدة الجماعات. والى أمثال ذلك, يشير قوله تعالى:

( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) (الأنعام: 159) .

ويشير القرآن إلى أن تجزئه التفكير والفهم – خاصة في الدين – يؤدي إلى الشرك, لأن التفكير والفهم الجزئيين, يتركان فراغا تملؤه الأوهام, والأفكار الخاطئة:

( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) (الروم: 31-32) .

( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا ) (الشورى: 13) .

وهكذا, سواء أكان موضوع الفهم والتفكير، هـو الدين, أم غير الدين, فإن التفكير الجزئي يؤدي إلى تعدد وجهات النظر وتباعدها, وتنافرها, وينتهي في النهاية إلى تفتيت الجهود والفشل في الوصول إلى الحقيقة, أو الثمرات المنشودة.

(3) تدريب المتعلم على التفكير التجديدي بدل التفكير التقليدي

والتجديد الذي عناه القران هـو التفكير الذي يتحرر من عوامل الألفة، والآبائية, والتقليد, وينظر في الأفكار الجديدة نظرة، وفي الواقع نظرة أخرى، ثم يقارن الفكر بالواقع, ويتحرى الملائمة والصواب. ولذلك ربط القرآن النظر في آيات الآفاق والأنفس – حيث الواقع والأحداث الجارية – [ ص: 60 ] ووجه التفكير الإنساني لاكتشاف نتائج هـذا الربط، التي تصدق آيات الكتاب.

أما التفكير التقليدي : فهو عدم استعمال القدرات العقلية, واللجوء إلى المحاكاة، أو الآبائية, والاكتفاء بالمألوف القائم. ولا فرق أن يدور التقليد حول نماذج قديمة جدا وأخرى جديدة جدا. فكلا النوعين تعطيل للقوى العقلية, وإن اختلفت ميادينها وأدواتها:

( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) (الزخرف: 23) .

ويستنكر القران جمود المقلدين, وهو يهتف بهم إلى التحرر من أوهام التقليد:

( قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) (البقرة: 170) .

ويحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الفرد عديم الفكرة، مسلوب الإدارة " لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس, إن أحسن الناس أحسنت, وإن أساءوا أسأت " .. ويقول كذلك: " كونوا للعلم وعاة, ولا تكونوا رواة " (كنز العمال، جـ10، رقم 29335) .

في سبيل ذلك, يوجه الإسلام الإنسان إلى البحث في أسرار الكون, وعلائق الاجتماع, وقوانين الوجود القائم, سواء ما يتعلق بالإنسان, أو الحيوان, أو الجماد.

والآيات التي تدعو إلى النظر في الوجود المحيط هـي آيات كثيرة جدا في القران الكريم.

(4) تدريب المتعلم على التفكير العلمي بدل الظن والهوى

في القرآن توجهات متكررة, للحث على التفكير العلمي, والتدريب عليه. فهو يدعو إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام, قبل استكمال [ ص: 61 ]

المعلومات اللازمة, والتعرف على الحقيقة كاملة:

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (الحجرات:6) .

وهو يحث على طلب الدليل في كل اعتقاد, والتوجيهات في ذلك كثيرة, منها:

( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ) (الكهف: 15) .

كذلك يدعو إلى التثبت في كل أمر، قبل الحكم علية بالقبول أو الرفض, وينهى عن التبديد الطاقات السمعية والبصرية والعقلية في أمور لم تتوفر لها الأدلة العلمية الكافية:

( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء: 36) .

وفي المقابل ينهى القران عن إتباع الظن, ويندد بأهلة:

( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) (النجم: 23) .

( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) (النجم: 28) .

وفي الحديث: ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) . >[1]

والتفكير العلمي – في التربية الإسلامية – لا يقتصر على أماكن الدرس، ومختبرات البحث، وإنما هـو صفة لازمة للإنسان في الحياة اليومية، والعلاقات الشخصية والعامة، والمواقف الودية والعدائية. والواقع أن ما يميز الفكر المتقدم, والمجتمعات المتقدمة، عن الفكر المتخلف, والمجتمعات المتخلفة, هـو أن التفكير العلمي صفة أساسية في الأولى, بينما التفكير القائم على الظن والهوى صفة ملازمة للثانية. ولقد أدركت المؤسسات التربوية الدولية [ ص: 62 ] ضرورة التفكير العلمي للإنسان المعاصر, الذي يتطلع للتغلب على التحديات، التي أفرزها التطور الهائل في التكنولوجيا, وانهيار الحدود الثقافية والإجتماعية، بين المجموعات, البشرية – في قرية الكرة الأرضية – ولقد ورد في تقرير اللجنة الدولية التي كونتها منظمة التربية الثقافية والعلوم (اليونسكو) لدراسة أوضاع التربية في العالم وتقديم التوصيات بشأن تربية المستقبل: أن الإنسان العلمي, الذي يستعمل التفكير العلمي, في كل مكان, وفي كل موقف, دون التأثر بإفرازات العرقية, أو الطائفية أو القبلية، أصبح ضرورة كضرورات الحياة المادية, ولوازم المعيشة اليومية. >[2]

(5 ) تدريب المتعلم على التفكير الاجتماعي بدل التفكير الفردي

في القران الكريم, والسنة الشريفة, توجيهات, وتطبيقات متكررة، هـدفها تدريب الإنسان على التفكير الجماعي, الذي يربط مصير الفرد بالجماعة، ومصير الجماعة بالفرد، ويجعل تبادل الرعاية بين الطرفين صفة لازمة للمجتمع الراقي.

والتوجيهات المتعلقة بهذا الشأن كثيرة جدا, من ذلك قولة تعالى:

( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) (الأنفال:25) .

( وقوله صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )

( مثل المؤمنين في توادهم, وتراحمهم, وتعاطفهم, كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو, تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .

ويلحق بذلك تضافر التفكير الاجتماعي, ليتجسد في مبدأ الشورى, ومثال القوم الذين ركبوا في سفينة, وأنهم جميعا مسئولون عن سلامتها, وتوفير حاجات بعضهم بعضا, من الماء وغير ذلك. [ ص: 63 ]

(6) تدريب المتعلم على التفكير السنني بدل التفكير الخرافي، أو التفكير الخوارقي

التفكير الذي يشدد عليه القرآن، ويكرر لفت الانتباه إليه, هـو التفكير الذي يعتبر أن الكون والإجتماع البشري, تسيره سنن – أي قوانين – إلهية معينة, وأن التعايش مع عناصر الكون، والنجاح في مجرى الإجتماع البشري، إنما يعتمدان على موافقة هـذه السنن والقوانين, في ميادين الحياة المختلفة. وبمقدار ما ينجح الإنسان في الكشف عن هـذه السنن والقوانين, وفي حسن استخدامها والتوافق معها, بمقدار ما يستطيع تسخير الكون, والإجتماع البشري, لتحقيق المقصودين النهائيين للتربية الإسلامية وهما: بقاء النوع البشري، ورقيه خلال أطوار النشأة والحياة والمصير.

أما التفكير الخرافي , الذي اتسمت به أطوار الطفولة البشرية, والذي كان يتوهم الهيمنة والفاعلية في قوى موهومة, وأرواح مخترعة, جسدها التصور البشري آنذاك بأشكال الصنمية, والوثنية, ورموزها المختلفة، فهذه لا بد للتربية الإسلامية أن تكون دائما على حذر من آثارها ومظاهرها, في اغتصاب القدرات العقلية, وآثارها المدمرة في السلوك والاجتماع.

كذلك يوجه القرآن والحديث إلى ضرورة التحرر من التفكير الخوارقي, الذي يعفي الإنسان من مسئولياته في التغيير, والعمل، وينتظر حدوث–الخوارق والمعجزات الإلهية– في تحقيق حاجاته وحل مشكلاته. فهذه الخوارق – وإن حدثت في عهود سابقة, وفي مواقف محددة – إلا أنها ظواهر تاريخية, مضت وختمت بختم النبوة, والرسالة, وانتقال البشرية إلى طور الرشد, الذي حددت بداياته وملامحه ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم , والذي قام جهاده, -أساسا– على الجهود البشرية العادية, وإحكام تعبئة القدرات البشرية المألوفة, ومراعاة السنن والقوانين الإلهية في جميع الشئون:

( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد [ ص: 64 ] لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر: 43) . ( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب: 38) .

جـ - أنواع التفكير

أما عن القسم الثالث لمنهج التفكير السليم, وهو أنواع التفكير, فهذه تتضمن ما يلي:

(1) التفكير المنطقي أو التحليلي وهو يختص بالنظر في معاني الرموز, التي تدور حول العلائق, والأسباب, والنتائج, مثل التفكير الرياضي ، والتفكير الفلسفي , ويمارس عمله في ضوء مجموعة من القوانين والنظريات.

(2) التفكير التجريبي وهو يختص بالموضوعات، التي تدور حول الحقائق المتعلقة بعناصر الكون المحسوس, مثل التفكير الفيزيائي ، والكيميائي، ويقوم بإصدار الأحكام في ضوء الخبرات البشرية المحسوسة بعناصر الكون ومحتوياته.

(3) التفكير الأخلاقي وهو يهتم بالتقريرات التي تفاضل بين المواقف والأعمال وتقومها. ويصدر أحكامه إزاءها من حيث صلاحها, أو سوءها، وخيرها, أو شرها في ضوء عقائد ومبادئ معينة.

(4) التفكير الجمالي وهو يهتم بالتقريرات، التي تفاضل بين الأشياء والمواقف, والأعمال، والمنتجات, ويقومها. ويصدر أحكامه إزاءها من حيث جمالها, أو قبحها, في ضوء معايير جمالية معينة.

والأزمة التي تعاني منها نظم التربية المعاصرة هـي الانشقاق القائم بين أنماط التفكير المشار إليها, وعدم تكاملها, مما ينعكس آثاره على نتاج هـذه الأنماط من التفكير في ميادين الأعمال، وفي المواقف الحياتية المختلفة. فالذين يغلب عليهم التفكير المنطقي يكون صوابهم واضحا – مثلا – في ميادين الرياضيات, والفلسفة والقانون, ولكن خطأهم يكون أوضح حين يجنحون إلى ميادين الذوق والعلاقات الإنسانية الرفيعة, والأخلاق, ومثلهم أصحاب التفكير [ ص: 65 ] التجريبي والجمالي يكون صوابهم واضحا في ميادين العلم, والنظام, والتخطيط, ولكن خطأهم يكون أوضح في ميادين الاعتقاد والأخلاق.

وتعاني المؤسسات الإسلامية التربوية التقليدية من هـيمنة التفكير الأخلاقي على جميع الميادين, ومع أن الصواب في ميدان الأخلاق, إلا أن سلبيات هـذا التفكير تكون فادحة, حين يتخطى ميدانه الى الميادين الأخرى.

ولذلك يشيع في الحياة الإسلامية المعاصرة نقص واضح فيما يتعلق بميادين التفكير التحليلي والجمالي، من حيث تعشق المعرفة, وحب النظام, وتقدير قيمة النظافة, وجمال العلاقات الاجتماعية العامة, وحسن تحليل المشكلات.

التالي السابق


الخدمات العلمية