مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح

الدكتور / ماجد عرسان الكيلاني

صفحة جزء
4- توفير البيئة اللازمة لتنمية القدرات العقلية والتفكير السليم:

تحرص التربية الإسلامية على توفير البيئة المناسبة لنمو القدرات العقلية نموا سليما. وأبرز سمات هـذه البيئة أمران: الأول: الحرية. والثاني: الممارسة والتدريب على التفكير الحر.

أما عن السمة الأولى وهي الحرية، فلأن القدرات العقلية تنمو وتزدهر في أجواء الحرية, وهي تموت في أجواء الكبت الفكري, والقهر الإرادي.

وحين تموت القدرات العقلية, أو تعاق عن النمو, لا يكون هـناك إيمان حقيقي, لأنه لا يكون هـناك شهود للمثل الأعلى, وإدراك لبراهين الإيمان, وإنما يكون هـناك تسليم, وتقليد أعمى, أو آبائية ونكران.

والحرية نوعان: حرية التفكير, وحرية الاختيار. وهي تتحقق في واقع الحياة حين لا تقيد الحرية إرادة مخلوق, ولا تخرج عن سنن الخالق, وقوانينه، في الوجود.. ولذلك, تحدث أزمة الحرية أما حين تقيدها إرادة المخلوق أو حين تخرج عن توجيهات الخالق, وتصطدم مع قوانين الخلق، وسنن الحياة, في مواقع كثيرة من شبكة العلاقات التي تنظم علاقات الإنسان بالخالق, والكون والحياة, والإنسان, والمصير.

وأما عن السمة الثانية وهي الممارسة العملية للحرية, والتدريب على التفكير الحر، فقد جعلت الأصول الإسلامية للصواب من ثمرات التفكير, أجرين, بينما جعلت للخطأ أجرا واحدا، مع ملاحظة أنها لم تخصص أجرا للخطأ إلا في ميدان العقل والتفكير, ومعنى هـذا أن الذي لا يستثمر نعمة الله في العقل والتفكير, لا ينال شيئا, وأن من يخطئ في استثمار النعمة, هـو أفضل من الخامل عن التفكير, المستسلم للتقليد والآبائية .

ولتوفير الحرية بالمعنى الذي تقدم, كانت التزكية في التربية الإسلامية, [ ص: 70 ] وكانت العودة لتطهير البيئة من جميع الضغوط العقلية والنفسية المتمثلة بالصنمية والوثنية, وقيود الشهوة، وممارسات القهر والتسلط والحرمان.

وتتباين أزمة الحرية في نظم التربية المعاصرة, طبقا لدرجة وجود، أو فقدان البيئة اللازمة, بالشكل الذي جرى عرضه في الفقرات السابقة, وطبقا للدور الذي تلعبه المؤسسات التربوية, والموروثات الثقافية, والقيم الإجتماعية وتطبيقاتها الناشطة في هـذه البيئة.

ويمكن التعرف على طبيعة الدور الذي تلعبه المؤسسات, والموروثات المشار إليها, في كل من المجتمعات المتقدمة, والمجتمعات المتخلفة المعاصرة، من خلال تتبع تطور حرية الإنسان في كل من البيئتين:

ففي مجتمعات ما يسمى بـ ( العالم النامي, أو الثالث, أو المتخلف) .

فإن المؤسسات التربوية, والموروثات الثقافية, والقيم الإجتماعية الفاعلة، لا المخزونة >[1] والمؤسسات الإعلامية, وأجهزة الأمن والمراقبة, والإدارة تتضافر كلها لإعاقة القدرات العقلية عن النمو والعمل, ولسلب الإنسان, حرية التفكير, وحرية الاختيار سواء، ولذلك تظل القدرات العقلية معطلة عن النمو, معوقة عن الاستعمال. ففي الشرق العربي وما حوله – مثلا – تبدأ المؤسسة التربوية الأولى – أي الأسرة – في كبت الحرية, وتطويع إدارة الصغير للكبير, والضعيف للقوي, منذ الساعات الأولى لولادة الإنسان, حيث تسلب حرية المولود في الحركة من خلال " التقميط والتلفيع " الذي يكبل يديه ورجليه, ويحيله الى أشبه بجثة المومياء الفرعونية. كذلك يمنع من البكاء الذي يشكل المقدمة الأولى بحرية التعبير, ويمنع من اليقظة, ويجبر على الاستسلام, والنوم بالمهدئات والمخدرات الخفيفة, كشراب البلسم [ ص: 71 ] وأمثاله.

وحين يبدأ المولود رحلته في محطات الشهور يمنع من لمس مواد البيئة المحيطة, وإذا حاول التعرف على تفاصيل محتوياتها, نزل به العقاب ووجهت إليه صفات التخريب والشيطنة و " بنوة الحرام " ، وحين نقل – الشرق – ظاهرة لعب الأطفال, صارت تحضر اللعب بإسم الصغار، ليلعب بها الكبار ويستأثروا بها، بحجة الحفاظ عليها، من تخريب الأطفال وإفسادهم وشيطنتهم.

وحين يبدأ الطفل رحلته في محطات السنين، تبدأ قولبة عقله ومشاعره وسلوكه بقوالب الابائية والتقاليد , والقيم المتفرغة عنها, بأساليب قسرية قاهرة, وحين ينتقل الطفل الى الروضة, ثم الى المدرسة, يتابع المعلم دوره في كبت حريات الطفل الأربع: حرية الحركة, وحرية الكلام وحرية التفكير, وحرية الاختيار, ويبدأ في تدريبه على تسمير جسده في المقعد, والتلقي دون تفكر، أو ممارسة, وينتصب المعلم أمامه آمرا ناهيا معصوما من الخطأ, مبرءا من النقص, وبذلك يعده ليرى كل مسئول يعلوه في المستقبل بنفس الصورة, فلا يناقش ولا يشارك بل يتلقى وينفذ. ولا تختلف تقاليد الجامعة ومناهجها في الشرق عن تقاليد ومناهج المدرسة كثيرا. ويكمل عمل البيت والمدرسة والجامعة, والمؤسسات التربوية في المجتمع, كالإعلام والصحافة والوعظ, فجميعها تمارس الإلقاء بدون نقاش, والقولبة بدون تمحيص, والإتباع بدون تفكير.هكذا تتضافر المؤسسات التربوية ابتداء من البيت حتى الجامعة والبيئة المحيطة لخنق القدرات العقلية عند الناشئ, ولتخريج مواطن متدرب على أن يسمع فيطيع, ويتلقى فلا يناقش، ويؤمر فيعمل, دون تفكير بالنتائج.

أما في المجتمعات المتقدمة, فإن المولود يترك منذ الساعات الأولى للولادة طليق الحركة, وينظر إلى بكائه كظاهرة صحية لازمة لتوسيع أجهزة التنفس، وتمرين أوتار الصوت, وتهيئتها للقيام بوظائف التعبير في الحياة المقبلة. [ ص: 72 ]

وحين تمضي في محطات الشهور يعتبر لمس الطفل لمواد البيئة المحيطة شارة لبدء عمل القدرات العقلية ونموها، للتعرف على مكونات البيئة وقوانينها، ولذلك نشأت من أجله صناعة ألعاب الأطفال، لتسهم في نموها، للتعرف على مكونات البيئة في نمو قدراته العقلية، وتشبع استعداداته في دراسة ما حوله.

وحين يمضي الطفل في محطات السنين، يعطى الحرية كاملة - في البيت والمدرسة والجامعة - لفحص ما يرى، ومناقشة ما يسمع، والتعبير عما يشعر، وتطبيق ما يفكر، والمشاركة في النشاطات الدائرة، والتدريب على أدوار الحياة المقبلة، والإسهام في مواجهة تحدياتها، ومعالجة مشكلاتها.

هكذا تتضافر المؤسسات التربوية ابتداء من البيت حتى الجامعة والبيئة المحيطة، لرعاية القدرات العقلية عند الناشئ، ولتوفر لها فرص النمو وبيئته، وأسبابه، وليستمتع بالحرية طفلا في البيت، وتلميذا في المدرسة، وطالبا في الجامعة، وبذلك يتذوق قيمة الحرية مواطنا في أمة، ويرعاها ربا في أسرة، ويذود عنها ممثلا في البرلمان،أو جنديا في الميدان، ويمنحها للآخرين مديرا في دائرة، أو وزيرا في وزارة، أو حاكما في دولة، وفي بقية مواقع المسئولية التي ترعى العلاقات الإجتماعية وتنظمها.

ولكن الحرية عند إنسان المجتمعات المتقدمة، خاصة المجتمعات الغربية، تعاني من أزمة واضحة. وتتمثل هـذه الأزمة في أمرين:

الأول: أنه على الرغم من أن إدارة المخلوق لا تقيد حرية الإنسان، إلا أن مفهوم الحرية عند الغربي يصطدم بسنن الخالق وقوانينه في الاجتماع، وهو ما زال حتى الآن لا يلتفت إلى خطورة هـذه المشكلة، رغم تفكيره السنني - العلمي، وانسجامه الدقيق مع قوانين الخالق في الكون الطبيعي >[2] [ ص: 73 ]

والأمر الثاني: مع أن المؤسسات التربوية والموروثات الثقافية والقيم الاجتماعية -في الغرب– تتعاون لتنمية الحرية اللازمة لنمو القدرات العقلية وتوفير ( حرية التفكير ) إلا أنها تتدخل في ( حرية الاختيار ) مستغلة في ذلك ثمرات العلم, والقوانين التي تتوصل إليها البحوث النفسية, والعلوم الاجتماعية, وتطبيقاتها في الإعلام والطباعة والنشر. ولذلك حين يمارس الفرد (حرية الاختيار) , فإن قسطا كبيرا من اختياراته يكون مطابقا للاختيارات التي يريدها الموجهون المتوارون وراء يافطات البحث العلمي ومؤسسات الإعلام وأصحاب القوة والنفوذ.

وهذا كله يحدد نوع المسئولية التي تقع على عاتق التربية الإسلامية ومؤسساتها إزاء قضية الحرية. فهذه المسئولية تتمثل في ميدانين:

الأول: مراجعة الموروثات الثقافية، والقيم الإجتماعية لإعطاء (قيمة الحرية) في العالم الإسلامي, المكانة الرفيعة التي تمكنها من رعاية القدرات العقلية, ورعاية حرية التفكير, وحرية الاختيار.

ولا بد (للحرية) أن تتمركز في قلب نظام القيم السائدة, وأن ترفع المؤسسات التربوية درجة غيرة الفرد على حريته, الى درجة غيرته على نسائه، وأن يتحاشى الاعتداء على حريات الآخرين, أوهتكها، واغتصابها، كما يتحاشى الاعتداء على أعراضهم ونسائهم. فالتربية والمؤسسات التربوية هـي التي وفرت في عصور التطبيق الإسلامي, أن تنجب أفرادا تثور ثائرتهم على الولاة المقربين، إذا هـتكوا حرية أحد الرعية الذميين, وتنفجر قداسة الحرية على ألسنتهم: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار!! في الوقت الذي تعمل تأديبا لمن اغتصبوا هـذه الحريات. وحين هـجرت [ ص: 74 ] مؤسسات التربية رعاية قيمة الحرية, مرت على الأمة قرون كاملة من اغتصاب الحريات دون حس أو شعور.

أما عن –الميدان الثاني – لمسئولية التربية الإسلامية ومؤسساتها, فهو النهوض لدخول ميدان التربية العالمية، لتصحيح مفهوم الحرية الذي يحمله المد الحضاري والتربوي والثقافي، الذي تزجيه الحضارة الحديثة الى جميع حارات " قرية الكرة الأرضية " . ولن تستطيع التربية الإسلامية ومؤسساتها القيام بهذا الواجب العالمي، إلا إذا نجحت في بيئاتها الخاصة في رعاية ( قيمة الحرية ) ورفعها إلى المكان اللائق في نظام القيم السائدة، فهذا النجاح سوف يقدم نماذج حية ملموسة لمفهوم الحرية السليمة وتطبيقاتها وثمارها. وسوف يرى الذين يعانون من ( أزمة الحرية ) المنتشرة في الحضارة الحديثة, هـذه النماذج الحية الملموسة, فيتأسون بأهلها ويتوجهون لمصادرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية