النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى

الأستاذ / المكي أقلانية

صفحة جزء
المبحث الثالث

المذاكرة في عهد الصحابة رضي الله عنهم

أدرك الصحابة قيمة المذاكرة، لذلك نجدهم حريصين عليها حرصا لا مثيل له، وينصحون طالبي الحديث بالمداومة عليها، لمجموعة من الأهداف يبتغون تحقيقها تتجلى في الأمور التالية:

1- الحفظ والتذكر

إذا كان الصحابة في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقومون بحفظ الحديث، فإنهم بعد وفاته أحسوا أكثر من أي وقت مضى بضرورة المحافظة عليه بشتى الوسائل، وحذروا من ترك المذاكرة؛ لأن ذلك سيؤدي إلى تفلت الحديث من ذهن المحدث. فعن ابن بريدة قال: " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تذاكروا هـذا الحديث، وتزاوروا، فإنكم إن لم تفعلوا يدرس " >[1]

" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: تذاكروا الحديث، فإن ذكر الحديث حياته " >[2]

" وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيج الحديث " >[3] [ ص: 79 ]

ونستطيع أن نفهم سبب هـذا الإصرار على المذاكرة، خصوصا إذا ما علمنا قلة الكتابة آنذاك بالمقارنة بالرواية الشفوية، مع وجود بعض الصحابة الذين يكرهون كتابة الحديث >[4]

والمحافظة على الحديث كانت تقتضي المداومة على التحديث. وهذا ما يصوره لنا ابن عباس رضي الله عنهما ، عندما وجه نصيحته لطلابه " بقوله: تذاكروا هـذا الحديث لاينفلت منكم، فإنه ليس مثل القرآن مجموع محفوظ. وإنكم إن لم تذاكروا هـذا الحديث ينفلت منكم. ولا يقولن أحدكم: حدثت أمس، فلا أحدث اليوم، بل حدث أمس، ولتحدث اليوم، ولتحدث غدا " >[5]

2- التفقه ونشر العلم

إن مداومة المذاكرة تؤدي إلى تفتق النظر، واستنباط الأحكام التي يكون المرء قد غفل عنها في بداية أمره. وبهذا يتسع أفق المحدث. ولهذا يقال: العلم يزداد بالإنفاق.

ثم إنه قد يحضر المجلس شخص لم يسمع الحديث من قبل، فينتفع به ( فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هـو أفقه منه ) >[6] [ ص: 80 ]

وفي هـذا " قال ابن عباس رضي الله عنهما : ردوا الحديث واستذكروه، فإنه إن لم تذكروه ذهب، ولا يقولن رجل لحديث قد حدثه: قد حدثته مرة. فإنه من كان سمعه يزداد به علما، ويسمع من لم يسمع " >[7]

ومن الطبيعي جدا أن يقوم السامع بتطبيق ما ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبذلك تنتشر السنة بين الأفراد؛ لأن المسلمين حريصون على السير حسب هـدي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

3- تصحيح الأخطاء

وذلك كأن يسمع صحابي حديثا من صحابي آخر، قد غفل عن جزء من المتن مثلا، فتغير معناه، فيحكم بالخطأ على رواية الراوي، ويصححها له. من ذلك قول ابن عمر ( عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهر تسع وعشرون ) ، فلما ذكروا ذلك ( لعائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال: الشهر يكون تسعا وعشرين ) >[8]

وذكر لعائشة قول ابن عمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، في قتلى بدر ، " فقالت: وهل ابن عمر " >[9]

وبهذا يتبين أن الصحابة كانوا حريصين على ضبط السنة ضبطا دقيقا، يصل إلى درجة الوقوف عند الحرف الواحد، فيتكبدون مشاق الرحلة إلى من سمع معهم حديثا ما للتأكد منه >[10] [ ص: 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية