النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى

الأستاذ / المكي أقلانية

صفحة جزء
الخاتمة

بعد هـذا البحث المتواضع، يتبين لنا كيف أن المسلمين اهتموا بطلب ونشر الحديث النبوي، منذ العهود الأولى، حيث سهر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على تكوين أصحابه تكوينا سليما ومتينا، بوأهم لأن يكونوا حراس العقيدة والشريعة، وأن يكونوا خير مثال يقتدى به.

وهكذا نجد التابعين، وقد تشربوا من المعين الصافي، يسيرون على الهدي النبوي، باثين علمهم في كل الأوساط، سواء في المساجد، أو الدور، أو الطرقات، تحديثا وإملاء.

وعلى هـذا نرى مجالس العلم منتشرة هـنا وهناك، والطلبة بالآلاف، يتحلقون حول الشيخ للأخذ عنه، يدفعهم إلى ذلك: الوازع الديني، لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم >[1] ، ولأن من كتم علما مما يحتاج الناس إليه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار >[2]

وقد كان نظام الحلقات نظاما دقيقا، يقوم على انضباط الطلبة، والتزامهم بالأدب السامي، بحضرة شيخهم، تحت إشراف نقيب، وعلى كفاءة المحدث العلمية والتعليمية والتربوية، وأخيرا على الوعي التام من طرف المحدث والسامع.

ولكي يضبط الطلبة ما يروى لهم، كانوا يعمدون إلى الكتابة، ومقابلة المكتوب بالكتاب الأصل، أو عرضه على الشيخ؛ والطريقة الثانية هـي المذاكرة. فتفتقت أذهانهم، وحفظت صدورهم، وعرفوا الحافظ منهم والضابط. [ ص: 154 ]

وقد اتسع نطاق المذاكرة اتساعا كبيرا، خصوصا في الجيل الثالث وما بعده. وبهذا كانت نظاما هـاما من النظم التعليمية. ولم يكتف المحدثون منذ العهد الأول بالعلم الموجود في بلادهم، فنراهم يرحلون إلى الأصقاع البعيدة لضبط حديث، أو تلقي العلم بصفة عامة، أو نشره. وبهذا حافظوا على الحديث محافظة جلى.

وقد اشترطوا في المرتحل من أجل التعليم مجموعة من الشروط، منها: إخلاص النية، وحفظ القرآن أولا، واستيفاء العلم الموجود بالبلاد. ومن جانب آخر نجدهم يؤكدون على ضرورة الأخذ عن الشيوخ الثقات، للانتفاع من علومهم وتجاربهم، والاقتداء بهم. أما الاعتماد على الصحف فقط، فإنه يفوت على الشخص هـذه الفوائد، خصوصا وأنه لا يطلب منه مال مقابل التعلم بصفة عامة، ومن أراد أن يحضر مجالس العلم، فإنه لا يمنع. ولم يكن هـناك تمييز بين الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والصبي والرجل والمرأة، فكل هـؤلاء سواسية في العلم.

ومن مميزات التعليم عند المحدثين: ارتباط العلم بالعمل، وهذا يساعد على ترسيخ الحديث في الذاكرة. كما يتميز أيضا بكون الطلبة يتحرون الأخذ من العدول الضابطين، أما أصحاب الأهواء والبدع، فإنه سرعان ما يخبو أثرهم؛ لأن المسلمين حريصون كل الحرص على الذب عن السنة والشريعة. ومن مهمتهم التنبيه على هـؤلاء، حتى لا يأخذ عنهم أحد. وقد نرى أحد الثقات وهو يحفظ صحيفة اكتتبها من صاحب هـوى، وذلك إنما ليكون عالما بمروياته، فإذا ما جاء شخص يروي تلك الأحاديث، عرف درجتها من الصحة، فلا يعمل بها، ويبين المسألة للناقل حتى ينتفع هـو أيضا.

هكذا يظهر لنا أن النظم التعليمية عند المحدثين نظم دقيقة، تهدف إلى تكوين شخصيات فذة، لها مواقف إيجابية، لا تقف عند حدود الاجترار، بل تسموا إلى ما يمكن تسميته بالنقد المنهجي، ذلك المنهج الذي [ ص: 155 ] ظهر عند المحدثين، وتأثرت به باقي الميادين كالأدب والتاريخ، فحق لهم أن يفخروا بذلك أيما فخر، ولم لا وقد حافظوا على السنة الشريفة من الزيف والزيادة والنقصان، وأعطوا الضوء الأخضر لعلماء اللغة والتاريخ ليسيروا على هـديهم في تمحيص الأخبار والتدقيق في المرويات.

لقد أعطونا المثل الأعلى في ما يسمى بالأمانة العلمية، فهل نحن مقتدون؟ لا نريد أن نقول: " كان أجدادنا " بل علينا أن نقول: " كان أجدادنا، وها نحن على آثارهم سائرون قدما إلى الأمام " . فإذا كان الذين سبقونا خدموا السنة تحديثا وإملاء وتأليفا وتوضيحا للصحيح من السقيم، فهلا نهضت الهمم اليوم للمزيد من هـذه الخدمة؟!

إن التقنيات الحديثة، يمكن استغلالها في تبسيط المؤلفات التي تعسر على المتخصصين وغير المتخصصين بطريقة أولى. فها هـو الحاسوب بين أيدينا فهلا اختصرنا الجهود؟!

هذه دعوة نوجهها إلى كل من يريد خدمة الحديث الشريف، وهي مهمة جليلة، لا يمكن أن يقوم بها شخص واحد، بل مجموعة من المتخصصين يهتمون بشئون المسلمين، ومن لا يهتم بشئون المسلمين فليس منهم.

لقد حاولنا في هـذا البحث المتواضع أن نلم بشتات الموضوع، فإن لم نحط بجميع دقائقه، فإنه يشفع لنا أننا حاولنا جهدنا تسليط الأضواء على هـذا الجانب من الدراسة، لاكتشاف بعض مقومات الحضارة الإسلامية، وكيفية وصول الحديث إلينا على وجه الخصوص. وقد ظهر لنا أنه نقل إلينا نقلا أمينا، فالصحابة يسمعون من الرسول عليه الصلاة والسلام ، فينقلون إلى التابعين، وهؤلاء إلى غيرهم. وكان يجلس للسماع عدد هـائل من الطلبة، يصل إلى مائة ألف أو يزيد أحيانا. وهناك جانب آخر توخيناه من هـذا البحث، ألا وهو اكتشاف أشياء قد تفيدنا اليوم في حياتنا التعليمية.

هذا، ونسأل الله التوفيق؛ إنه على ما يشاء قدير. [ ص: 156 ]

السابق


الخدمات العلمية