العقل العربي وإعادة التشكيل

الدكتور / عبد الرحمن الطريري

صفحة جزء
العقل العربي أم العقل الإسلامي

قد يتساءل الفرد، لماذا نطرح العقل العربي كقضية، ولا نتوسع ونعمم، ونطرح العقل الإسلامي، بشكل عام، كقضية، ومن ثم سيكون العقل العربي داخلا بالضرورة ضمن هـذا الوصف أو التعميم. ولعل من المناسب الإشارة في هـذا المقام، إلى أن طرح العقل كقضية بشكل عام، وتخصيصه بالعقل العربي، ينطلق من بعض الاعتبارات الأساسية.

بادىء ذي بدء لو وجد عقل إسلامي بمفهومه الحقيقي، مستلهم للإسلام كتشريع، في جميع أمور الحياة، ومناحيها، وأنشطتها، لما كان هـناك من داع، لإثارة موضوع العقل كقضية، لأن العقل في هـذه الحالة، سيكون سويا وطبيعيا، يؤدي دوره في الحياة، بالشكل المطلوب. الأساس الثاني، الذي ننطلق منه، حين نقصر المناقشة على العقل العربي، هـو الواقع الذي يحياه العالم العربي، بشكل عام، في أموره السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفرض الكامن وراء هـذا الوضع السيء، يعود إلى الحال المتردية، والوضع المزري، من الناحية الثقافية، والمعرفية، أو بتعبير أدق: الوضع العقلي، والفكري، الذي يمر به الإنسان العربي.

وليس بخاف ما للإنسان العربي من دور في عالمه الإسلامي، إذا اضطلع بهذا الدور، وبهذه المهمة إلا أنه حينما يتخلى عنها، ويتراجع أو يكون في وضع لا يمكنه القيام بهذا الواجب فلا غرابة أن ينعكس ذلك على وضع العالم العربي، ومعه الإسلامي، [ ص: 54 ] " من حيث التردي المعيشي والاجتماعي، والضعف السياسي والعسكري ، والتخبط الاقتصادي ، والبلبلة الفكرية ، والتمزق والتشتت للأمة بين أجزاء وفئات.

إن من مبررات التركيز على العقل العربي، أن رسالة الإسلام جاءت على ارض العرب، وبعث النبي العربي الأمي بين العرب، لا لتكون الرسالة لهم فقط، بل لتكون للناس عامة: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) ( سبأ : 28) .

وهكذا التكليف للرسول صلى الله عليه وسلم ، يقتضي من المسلمين العمل على نشر هـذه الرسالة، وتبليغها أداء للأمانة، وقياما بالمهمة، وذلك لأن العرب لو انغلقوا على أنفسهم، في الجزيرة العربية، في ذلك الوقت، أو فيما بعد، لما علم أحد بالإسلام، ولما تحققت عالمية الإسلام. وهذا التكليف، ليس للعرب كلهم، بل إن العرب من غير المسلمين، من يهود ونصارى، لا ينطبق عليهم، فهم خارج دائرة التكليف الذي لا يتحقق إلا بالإيمان بالإسلام أولا. ومن خلال هـذا المفهوم، نستبعد أن تكون رابطة العرق، أو القومية، بين العرب والنبي صلى الله عليه وسلم ، هـي أساس ومنطلق التكليف، بل إن هـذه العلاقة لا اعتبار لها في الإسلام، حيث عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، بقوله ( دعوها فإنها منتهية ) وهو يعني بذلك الانتصار للعصبية، والرابطة العرقية. إن الإنسان العربي المسلم على وجه الخصوص، تلازمه هـذه الرسالة على مدى التاريخ، ودوره في الأمر رئيسا ومحوريا، وليس هـامشيا كما يظن بعضهم. أما السبب الآخر من دواعي التركيز على العقل العربي، فهو أن اللغة العربية، والتي هـي لسان العرب، هـي لغة القرآن، وبها تنزل، ودون، وبها دونت، [ ص: 55 ] ورويت السنة النبوية المطهرة. وهذا الأمر بحد ذاته، ليس باليسير، فدور العرب في هـذه الحالة، يقتضي تعليم القرآن وتدريسه، وشرحه للناس، وبيان معانيه، ومقاصده، ودلالاته، وهذا ينطبق على السنة النبوية أيضا.

إن هـذه المهمة، لا يمكن أن يقوم بها أي فرد، بل إن العرب مرشحون لهذه المهمة، بحكم اكتسابهم اللغة العربية بالفطرة. يضاف إلى هـذه العوامل، وجود مقدسات الإسلام، على أرض العرب، وهذا يجعل من أرض العرب قبلة، ومأوى للمسلمين، من كل أقطار الأرض للحج والزيارة. وفي هـذه الحالة، سيكون الإنسان العربي، من يقوم بحق الضيافة لإخوانه المسلمين، ويقوم باستقبالهم، مما يفرض عليه، أن يكون على مستوى من الوعي، والمعرفة، والإخاء، والمحبة. هـذا وإن موقع العالم العربي، وما حباه الله به من ثروات طبيعية، يعطي الإنسان العربي قوة في هـذا العالم، وتأثيرا يحسب له حسابه، إذا هـو تمكن من استغلاله، وتوظيفه التوظيف السليم.

إن واقع العالم العربي، وما يعانيه من تشرذم، وضعف، وهوان، لم يأت من فراغ، بل هـو نتيجة لواقع الإنسان، الذي يعيش عليه. فالإنسان العربي في عقله، وتفكيره، وفي ثقافته، وفي تكوينه النفسي، بشكل عام، أصبح ممزقا وضعيفا، في تكوينه العام، مما دفعه بعيدا عن موقع الصدارة والقيادة. ويكفي أن نقول: إن هـذا الوضع ليس طبيعيا للإنسان العربي المسلم، إذ لديه من عناصر التأهيل القيادي ما فيه الكفاية، ولكنه فرط بها، أضاعها عبر سنوات من الضياع والتيهان الفكري. ولعل من أبرز سمات ضياع الإنسان العربي، على الصعيد الفكري، [ ص: 56 ] هو لهثه خلف تيارات فكرية وافدة باسم التجديد، والتحديث، والتطوير، والتمدن، ولو تمعنا في هـذه الحركات الفكرية، لوجدنا أنها تدار من قبل الأعداء، ولكنها تلبس زيا محليا، حتى تكون مقبولة وغيرة منفره.

إن معظم هـذه الحركات الفكرية، قد قدمها المنصرون، والاستعمار، الذي جثم على صدر العالم العربي، لفترة ليست بالقصيرة، حيث أحدث خلالها الكثير من التغييرات في بنية الفكر والعقل عند الإنسان العربي، وشككه في ثوابته، ومعتقداته، مما أضعفها في نفسه، وجعل منه عدوا لدودا لعقيدته، دون أن يعلم بذلك في كثير من الأحيان. هـذا وقد ساهم كثير من العرب المسلمين، في حملة التضليل هـذه، ممن انبهروا بالحضارة الغربية وأصبحوا يفكرون من خلالها، ولها إلا أنهم في الظاهر عرب ومسلمون.

إن الأقليات غير المسلمة القابعة في العالم العربي، لا يمكن أن يغفل أثرها، حيث كان لبعضهم ريادة إدخال الكثير من المتاهات الفكرية إلى العالم العربي، كالأحزاب الشيوعية والبعثية، والقومية. حتى إن الرئيس اللبناني السابق بشير الجميل ، قال وبصريح العبارة في مقابلة له مع إحدى محطات التلفزيون الأمريكية حينما كان زائرا لتلك البلاد - عن المسيحيين في الشرق ـ: ننا نمثل حضارتكم وثقافتكم في منطقة الشرق الأوسط، لذا عليكم دعمنا، ومساعدتنا، لنثبت هـناك.

إن مثل هـؤلاء الأفراد، الذين ينتمون لهذه الأقليات، يخدمون انتماءاتهم الحقيقية، وهي الانتماءات العقائدية والفكرية، كما أنهم يخدمون مصالحهم الفئوية والشخصية، وذلك لإيجاد موطىء قدم لهم، [ ص: 57 ] إن لم يكن السيادة على الساحة الثقافية والفكرية، ومن ثم تكون لهم السيادة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.

إن الملام في هـذه الحالة هـو الإنسان العربي المسلم، الذي يمثل أغلبية على أرضه، ويكون تبعا بل وخادما لأفكار غريبة، ودخيلة عليه، وعلى مجتمعه، وبيئته، ومن ثم يكون خادما لفئات، وأقليات، تعيش معه على هـذه الأرض، بفضل كرمه، ومشاعره الإنسانية الفياضة.

إزاء هـذه الحقائق، التي يعيشها الإنسان العربي، من حيث التيه، والضياع، واللهث وراء الأفكار المستوردة، بوعي أحيانا، وبدون وعي أحيانا أخرى، يجب الإشارة إلى أن ابتعاد الإنسان العربي عن عقيدته الإسلامية، كمنهج حياة، تفقده أهلية الريادة، التي اكتسبها بالحق التاريخي، وكذا بحق وجود المقدسات الإسلامية على أرضه، وهو بهذا الابتعاد، لا يختلف عن أي إنسان آخر، مهما كانت جنسيته، ومهما كانت قوميته، لأنه بابتعاده عن العقيدة يكون ابتعد عن روافد التأهيل القيادي.

إذا الإنسان العربي لا يجمعه مع غيره من الناس، إلا العقيدة والفكر الإسلامي، فإذا افتقد هـذا القاسم المشترك، يكون الفرد الذي افتقده، سواء كان عربيا، أو غير عربي، خارج دائرة الاهتمام والتكليف. ومن هـذا المنطلق جاء التركيز على الإنسان العربي، لأننا نعتقد أنه لا يقوم بدوره الذي وكل به، كما يجب، وبالصورة المرتجاة. [ ص: 58 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية